7‏/3‏/2012

الألم

تـُرى أى العلل يشكوها المرء أكثر ، علل الروح أم الجسد ، وتُرى أيهما أسبق ، أو أيهما تورث الأخرى ، أيهما تُشفى ولا تنتكس ، وأيهما تندمل ولكن تُنكأ ، أيهما يصلح المسكن لها .. فيخفف آلامها ، وأيهما تستدرجها المضادات إلى عالم الآثار الجانبية ، أيهما يرثى الناس لحال صاحبها ، وأيهما يهونون من شأنها .

أسئلة تملكتنى لأيام خلت ؛ فأنا لا أتذكر أن علة أصابت جسدى إلا إذا كنت فى أمس الحاجة إليها .. إلا عندما يكون الألم قد تملك روحى ولا أجد سبيلا كى يعرف الناس به فيشفقون على ، فأتمنى ساعتها أن يكون الداء ظاهرا ، حتى يكون لى مجرد الحق فى طلب الراحة ، أتذكر أيضا أن الداء الجسدى إذا جاء بلا علة نفسية فلا أكاد أذكره ، يأتى سريعا ويذهب سريعا ، كضيف حل فى غير موطنه ، فلا يلبث أن يرحل.

ولكن إذا كنا ندعى كثيرا أن الروح هى الأساس ، فلم لا يسترعى انتباهنا عليلو النفوس ، لم إذا قال أحدهم " اعذرنى أنا تعبان نفسيا هذه الأيام " ضحكنا ملء أشداقنا " شكلك بتحب .. ههههه " ، وإذا قال " أصابتنى نزلة برد " تغير لوننا وانكسرت نبرتنا " ألف سلامة عليك " .. لم يمكنـُك إذا أخبركَ الأولى أن تردف قائلا " طيب تسلمنى شغلك بكره وتبقى تحكيلى بعدين " ، وإذا كانت الثانية " طب نام واتغطى كويس وفى داهية الشغل .. أهم حاجة صحتك " ، لم نجد طبيبا واحدة لعلل النفس يسمى الطبيب النفسى ، يعافه الجميع ، ويربطونه بالأمراض العقلية ، ولم نجد لكل سنتيمتر فى الجسد طبيب متخصص أنف وعين وأسنان وقلب وجلد وظفر ..

الإجابات الجاهزة لدى "الإسلاميين" تبدأ بقوله تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " وبالطبع لا تنتهى ، لكننى حتى الآن لا أجيد الخلط بين خطى العلاقة مع الله والعلاقة مع الناس من الزاوية التكميلية ، أى أننى إذا ضعفت علاقتى بالله لا أستطيع تقويتها بعلاقتى مع البشر كذا العكس هناك نوع ما من ألم النفس لا يمنع القرب من الله أن تشكو منه ، وما كان عام الحزن على نبينا - عندى - إلا من هذا القبيل ، فلماذا إذا تألم حلقك قالوا خذ بالأسباب واذهب إلى الطبيب ولا يقولون تقرب من الذى بيده الشفاء ، وإذا تألمت نفسك قالوا : ذنوب تكاثرت ، حافظ على وردك .

آلام الجسد تدهشنى قدرة المسكنات على إخمادها ، تأخذ كل مسكن فى موعده ، حتى ينتهى تأثيره فتأخذ الذى بعده إلى أن تنتهى المضادات الحيوية من عملها، وتعود بعد أيام لحالتك الأولى ، أما آلام النفس ، فهيهات ، سكونها ما هو إلا محض تلاهٍ عنها ، حتى إذا عدت إلى تفسك وجدت الألم أعظم .

آلام الجسد إذا استفحلت قد يُستأصل موطن الألم ، أما آلام النفس أنى لها ذلك ! ، آلام الجسد قد تشفى ولا تنكأ ، أما آلام النفس فلا يوجد جرح فيها لا ينكأ ، لا يوجد ، أنا لا أذكر مرة مرضت فيها لأنى تذكرت أن فى مثل هذه الأيام من العام الماضى كنت مريضا ، لكن كم مرة بت ليلتى أتقلب لأن صباحى صباح عام جديد على ألم قديم .

آلام النفس تنكئها الكلمة ، و الهمسة ، والغمزة ، والإشارة .. آلام النفس يهيجها لحن ، أو دمعة ، مشهد غروب أوصوت كروان ، صافرة قطار أو مرجل باخرة ، تأتى توا ، بلا ارتفاع تدريجى فى الحرارة ، ولا صعوبة فى البلع ، ولا سعلات متفرقة فى اليوم ، ليس لها أعراض .. ليس لها أنواع من الطعام دون أنواع ، ولا ألوان من الشراب دون أخرى ، كل الأنواع والألوان تصبح فى ألم النفس طعما واحدا بلا لون .

عليل الجسد إذا تأوه تضورت له قلوب الناس من حوله ، وعليل النفس إذا نطق بالآه ظنوا به الجنونا ، وأى ألم أشد فى النفس من ألم لا تراه إلا أنت ، من ألم إذا أردت أن تصرخ منه خرج الصوت يشق أحشائك شقا ، خرج أنينا أبكما ، لا يكاد يبين إذا سُأل : مالك ، إلا : مفيش ، اللهم إلا أن يسعفه الله بـ "شوية برد" فيخرج من حرج الهم الواضح فى ظاهرة بلا علة تُعايَن .

وإذا ما تكالبت الآلام ، هل يصبح السبب الرئيسى فى انتهاء رحلة الإنسان هى تكالب آلام روحه ، أم آلام جسده ، الضغط والسكر والقلب هل هى أزمات نفسية تترجمها الأجساد إلى لغة تفهمها العيون المادية ؟ ، الشىء الذى نعرفه جيدا أن السبب الرئيسى لموت الحيوان هو علل جسديه ، فهل كل من وصلت به آلامه النفسية إلى حد الموت دونها كان راقيا ، هل كان يفاخر جميل بن معمر وهو العربى فى زمن التفاخر عن\ما سأل عن قومه : من قوم إذا أحبوا ماتوا ، وهل مدحته الجارية وأعلت قدره عندما ردت : عذرى ورب الكعبة ، هل كان الفخر بالموت فى ميدان من ميادين الشعور يساوى عند العربى الفخر بالموت فى ميادين المعامع !

هل أقتل نفسى بإدمان عذاب نفسى كما يقتل المدمن جسده بمسكراته ، هل يحاسبنى الله على إزهاق نفسى ، وذهابها حسرات ، أم يثيبها على ما أوذيت به درجات ، أقوى النفس أنا بعذاباتها أم ضعيف بعجزى عن رد الآلام عنها ، أتزيد أسئلتى من الألم أم تسكنه ، أتزيد أسئلتى من آلام مثلى أم تسكنها ، آه من تلك السؤالات إنها بحد ذاتها لهى .. الألم .

ليست هناك تعليقات: