10‏/3‏/2012

فلول أمن الدولة العربى !

३/8/2011

مرهقا أنتظر ختما أخيرا على جوازى من موظف بدأ يبدى بعض علامات العجب عندما ضرب حروف اسمى على جهازه .. أبادره : هل من مشكلة ؟

- لا أبدا المشكلة من عندى على الجهاز .

يتريث قليلا ثم يختم بالفعل على الجواز ختما للدخول وتحته ختما للخروج فى آن .. ينظر مرة أخرى قبل أن يضغط على زر الإدخال فى حاسبوه ثم يتوقف فى اللحظة الأخيرة .. ينادى على زميل له فى العمل .. يتطلع فى الشاشة المحجوبة عنى ويبدى بعض علامات الدهشة هو الآخر .

يتبادلان بعض النظرات من باب "لا مشكلة" ، فيرد الآخر بنظره من باب "على مسئوليتك" فيكر الآخر بنظرة ختامية "لن أتحملها" .. وحينها يتوجه زميله بجوازى إلى مكتب مغطى زجاجه بأوراق داكنه فى الجهة المقابلة ويبتسم الأول فى وجهى ، عذرا سنتظر لدقائق .

"دقائق الانتظار املأها بالاستغفار" أطالع الملصق المستطيل المشهور الموضوع على زجاج الشباك الزجاجى الذى يحيل بينى وبين الموظف الذى أخذ يتقى نظراتى ، يرتد بصرى فجأة لأتأمل ملصقا بجواره مشابها طبعت عليه جملتان حسبتهما حديثا أو آية قرآنية كالعادة ، هى بين علامتى تنصيص كالعادة ، لكن يبدو أنها مقولة لأحدهم :

" انتهى عهد التخريب .. وإن عدتم عدنا ، وستكون عودتنا أقوى " .. وتحتها كتب اسم القائل : حمد آل الخليفة .. نظرت إلى الاسم وبدأت أطابقه بعشرات الملصقات الأكبر والأصغر التى ما زالت تصافح عينى منذ وصولى للمطار وعليها عبارات شبه موحده "كلنا فداك خليفة" "حمد كلنا فداك" وصورا لأخينا فى كل الأعمار ، وأحيانا يضعون معه صور أخيه فى الرضاعة العاهل السعودى فأزداد اتشاحا عن المنظر .. زورت فى نفسى الحمد لله الذى عافانا ..

دقائق وبرز لى من المكتب الذى أمامنا شاب ثلاثينى يلبس "الدشداشة" والعقال ويبتسم فى وجهى البتسامة عرفتها من النظرة الأولى ، وبدأ يسأل أسئلته المتوقعة :

حمد أليس كذلك ؟

- نعم .

- من وين جاى يا أحمد ؟

- (ما هو مكتوب عندك يا متخلف) من كوالالمبور سيدى .

- أحمد شنو بشتغل ؟

- (وانت مال أهلك) أعمل فى مجال الأفلام الوثائقية يا فندم .

- أخذ يتأمل فى الإجابة كمن فهم شيئا ثم ختم بنفس الابتسامة الصفراء ودخل المكتب ثانية .

كان صديقى الغزاوى وليد قد أنهى إجراءاته وينتظرنى ، أقتربت منه أسر إليه : يبدو أن هذه المرة أنا من سيعطلك لا أنت ، سنكون متساويان الآن مرة أنت ومرة أنا .

- ضحك وأردف : ما الأمر

- لا يمكننى أن أخطأ هؤلاء ، هذا رجل من أمن الدولة ، أو أيا يكن اسم هذا الجهاز اللعين هنا .

- أويعقل ، وكيف تصلهم معلومات عنك .. هل أوقفت فى مطار القاهرة وأنت قادم ؟

- بالطبع لا ، ولم أتوقع الأمر هنا مطلقا ، ولكن يدبوا أنهم لم يسمعوا بالثورة بعد ، وإنا لمسمعوهم يوما .

خرج الرجل السمج من المكتب مرة ثانية أوصل جوازى إلى الشباك وطلب منى استلامه من هناك ، وقفت أمام الموظف .. أخرج قلما وأخذ يشطب على الختمين ويكتب على كل منهما بحروف عربية ناصعة "ملغى" .. "ملغى" .. ويكاد القلم يستحى عبره من ختمين مجاورين مكتوب عليهما بحروف لاتينية "مرحبا" "مع السلامة" ، لم أستغرق سوى ثوان أمام موظفة ماليزية محجبة حتى حصلت عليهما .. يتقى نظراتى مرة أخرى ويسلمنى الجواز ، عفوا اذهب مرة أخرى للمكتب السابق وسخبرونك بالوضع الجديد

نطقت عنه فى صمت : عفوا أنت ممنوع من دخول دولة البحرين حتى لو كانت الزيارة لا تتعدى عشر ساعات .. عفوا دولتنا وكياننا أضعف من أن يتحمل وجودك الصورى على أراضيه .. عفوا إننا ملتزمون بسنن الله فى الأرض "أخرجوا آل لوط من قرتكم إنهم أناس يتطهرون"

استعرت ابتسامة صاحبنا السمج ورددت : فلا عبرت بى ساعة لا تعزنى ॥ ولا صحبتى مهجة تقبل الظلما ॥والشرف لى سيدى ألا أطأ بلادكم المحتلة وأنا الحر الثائر أبدا ..

توجهت لموظف الشركة مرة أخرى ، اعتذر لى بحرارة ، وسلمنى صكا بوجبتى غذاء وإفطار فى هذا "الترانزيت" الذى يستغرف عشر ساعات قبل وصول طائرتنا الأخرى إلى المطار ، سلمته الأوراق الخاصة بالمبيت لليلة واحدة فى أحد فنادق المنامة وأنا بنفس الابتسامة المستعارة .

توجهت لقاعة الوصول أتدبر أمرى ، اتصلت بأهلى أطمأنهم على كما وعدتهم ، تبسمت نبرة أبى عندما أخبرته بما حدث وقال : تحيا الوحدة العربية .

صدقت يا أبى .. تحيا الوحدة العربية ، الوحدة العربية التى بنت أنظمتها الفاسدة بلبات مختلفة لكنها ربطتها برباط واحد للدرجة التى عندما أستجوب فيها بضعة أيام فى القاهرة على جريمة دخولى إلى غزة خمسة أيام ، دون أية محاكمة أو أية عقوبة ، تسمع بالنبأ دولة خليجية ، فتضعه على أجهزة دولتها الرسمية ، وإن سمعت به الخليج فأولى بالسماع السعودية وسوريا والجزائر والأردن ، إنها الوحدة العربية .

إنكم تخدموننا بهذا الرباط الوثيق ، ونعم إن تخوفكم فى محله ، فإن بلدا تقع لهى نذير بسقوط الكل ، الكل لا محالة ، وأنتم أولى بهذا يا أكشاك الخليج ، أنتم مجرد أكشاك على الخليج العربى ، ولن ينفعكم درعكم ولا مجلسكم إذا دار دوركم ، ووالله إنى لأؤيد الثورة حتى لو قام بها شيعة ، حتى لو قام بها الفلبينيين فى أرضكم ، وإن دولة كافرة عادلة ، هى أقوم – كما قال ابن تيمية – من دولة مسلمة ظالمة ، فإن الأولى تضمن حرية الدعوة للإسلام فيرتجى من أصلابهم خيرا ، والأخيرة تفتن المسلمين فى دينهم ، وتصد الكافرين عن الإسلام بظلمها .

صبرا أيتها الممالك وصبرا يا بلاد الحجاز ، فأنت من الآن بلاد الحجاز لا ما تسمونه "السعودية" أى اسم هذا يعل فى الأرض ويتجبر حتى يسمى أرضا وشعبا باسمه ، فإن أشرف البشر لم تقم له دولة "محمدية" ولم يتجنس قوم باسمه الكريم فكيف أنتم ، ووالله لقد رأيت فتوة بلاد الحجاز القادمة فى فتية وفتيات أربأ بنفسى أن أدعوهم سعوديين وسعوديات ، هم حجازيون سيضربون اللحن الأخير فى معزوفة ثوراتنا .. والله الوكيل .

نزلت إلى المسجد تضطرم فى رأسى هذه الأفكار ، أحمد الله أن الموقف بعث أحاسيسى الثورية من جديد ، ما زال الطريق الثورى طويلا ، بخ بخ يا ثوار ، صليت المغرب والعشاء ، يالله إنها أول ليلة من رمضان .. نظرت إلى الوجوه العربية والمسلمة من حولى ، وجوه ماليزية وأفغانية وهندية وخليجية وعراقية وشامية ، دعوت الله أن ينظر لنا نظرة فيرحمنا ويزيل بنا حكاما أنجاسا مرتكسين .

أفترش ثلاث كراسى متجاورة وأتوسد حقيبة كتفى ، وأتقلب من برودة المكيف وأحاول أن أنام سويعات تدفع عن بدنى هجوم دور البرد الذى بدأ يفترسه حتى طلعت الشمس ولم أفق إلا على النداء : يعلن طيران الخليج عن قيام رحلته رقم 71 إلى القاهرة ، على جميع الركاب التوجه إلى بوابة 32 .

قمت وصليت ركتى الضحى واتجهت نحو البوابة أجد وليدا فى انتظارى يشتملنى بنظرات يحاول بها التخفيف عن وطء ليلتى .. بادرته : لم يكن الأمر سيئا ، على الأقل ليس بالسوء الذى كنت تواجهونه على معابرنا قبل الثورة .

- ضحك ضحكة خفيفة : وأنت الصادق ، وبعد الثورة أيضا .

- نظرت فى دهشة ، أستنطقه .

- ألا تعلم أن اثنين من غزة كانا معى وتم رفض عبورهما على الأراضى المصرية ، ومن ثم سفرهما إلى ماليزيا لأن اسمهما على الكشوفات الأمنية .

تيبس الدم فى عروقى ، بهت للحظات ، انطلقت الكلمات كسيفة أسيرة فى فمى : أجل صاحبى ، تهمتنا واحدة "غزة" تهمتكم أنكم من غزة فلا تطيقكم مصر ساعات عابرة ، وتهمتى أننى ذهبت إلى غزة فلا تطيقنى البحرين ساعات عابرة ، وما غزة إلا خروجا عن النظام العربى ، وما غزة إلا دولة واحدة وحيدة بلا جهاز أمن للدولة ، لا والله إنه جهاز رعب الدولة ، رعب كل دويلة من هؤلاء من أمثالنا ، من ثورتنا التى لن تبقى ولن تذر فصبرا .

ثلاث ساعات وكنا فى مطار القاهرة ، ملأت الاستمارة المصرية للعبور ، وملأ وليد استمارة عفوا "أجنبية" مررت فى ثوان وانتظرته من خلف فاصل حديدى ، نظر الضابط فى جوازه وأشار إليه بالانتظار .

انتظر قليلا ثم خرج رجل يبسم ابتسامة سمجة من مكتب فى الجهة المقابلة مغطى زجاجه بأوراق داكنة ، سلم عليه ورأيت شفتاه من بعيد تنطق بلسان عربى مبين من أين أتيت يا وليد .. ماذا تعمل ؟ لكنها لم تكن أسئلة كافية ، ولم يكن لسان وليد العربى أيضا لسانا شافيا ، اصطحبه معة إلى دهليز يطل على المكتب واختفيا .

انتهت إجراءاتى ، تسلمت حقائبى ، لم يظهر وليد ، ولا الرجل السمج الذى أخذ بيده ، سألت آخرين على باب الردهة ، أبحث عن صديق فلسطينى ، نظروا لى بريبة أشاروا لى بالدخول دخلت فى الردهة الطويلة ، وفجأة أغمضت عينيى وأخذت أتذكر ردهة مشابهة فى مبنى "لاظوغلى" معصب العينين أمضى وأمر على أضواء خافتة تنبعث من المكتاب مكتبا تلو الآخر وبشر يجلسون القرفصاء منكسوا الرؤوس ، فتحت عيناى على أحدهم هناك يجلس القرفصاء منكس الرأس .. ارتبكت قدماى وكدت أسقط ، سألت أحدهم مرة أخرى : فلسطينيى أحبث أنا .. لا ترهق نفسك سيتم ترحيله على بلاده .. امض أنت

مضيت على دقات أهلى الهاتفية يستحثوننى للخروج .. مضيت ومكث الفلسطينى .. مكث وأتى اليوم قبل ساعات ليخبرنى أنه لم يمض فى مطار القاهرة عشر ساعات بلا مأوى ، بل أمضى اثنين وعشرين ساعة بلا مأوى بعدما حقق معه .. ثم رحل عبر المعبر ..

هتفت هتاف أبى "تحيا الوحدة العربية" هتفت صبرا فلول أمن الدولة المصرى والخليجى ، يوما ما سيكون تجوالنا فى بلادنا أيسر من الثوانى التى انتظرناها على شباك جوازات ماليزيا ، ماليزيا البلد التى لا توحدنا بها جغرافيا ولا لغة ولا تاريخ وكان هذا مثالها معنا .. صبرا إن موعكم جيلنا .. أليس عهد جيلنا بقريب ..

8‏/3‏/2012

الإنسان .. والعَلاقة !

ما الإنسان ، الإنسان هو ذلك الكائن الربانى - مهما شابته الشوائب وغلبت عليه – الذى خلقه الله بإبداع فى مفرده ، وإبداع أعقد وأعجز فى مجموعه ، إذ اختلاف ألوان البشر وأشكالهم ليس أكثر إبهارا من اختلاف نفوسهم وعقولهم وقلوبهم ، التى لا يملكها جميعا إلاه ، ولا يملك بعضا منها إلا من أعطاه الله بعض أسباب ائتلافها "لو أنفقت ما فى الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم" .

وما العلاقة ، العلاقة هى روابط منفصلة عن الإنسان مقدرة كجميع أقداره ، لكن منها ما جعله الله جبرا ظاهرا عليه كالأب والأم والابن والأشقاء وكل ما تفرع من صلات قرابة ، ومنها ما جعله الله خيارا له ، بداية من أعقدها على الإطلاق "الزواج" إلى كافة أشكال العلاقات على وجه الأرض صداقات ومنافع وتعلم وجيرة وعشيرة .. إلخ .

وإذن فهناك من العلاقات ما لن تستطيع أن تفصلها عن الإنسان ولا بموته حتى وهى العلاقات الجبرية ، وفى المقابل منها ما ننشؤه بإرادتنا ونقطع دابره بإرادتنا أيضا ، قد تساعدنا الظروف فى هذا أو تساعد علينا ، لكن فى كل الأحوال غالبا ما يعلق مصير العلاقة على قرار الإنسان نفسه .

وإذا كان الإنسان قد خلقه الله فردا وسيحاسبه فراد ، فإن العلاقة خلقها الله – فهى مخلوقة أيضا بقدره وحوله – أعقد من ذلك ، خلقها زوجين (أعنى طرفين) أو أكثر ، ورتب حقوقها وواجباتها على كلا الطرفين ، ولم يستثن الله إنسانا فى الكون دون أن يرتب له "علاقة" مع الإنسان الآخر لها حقوق وواجبات ، مهما كانت ماهية هذا الإنسان ، ولعمرى فإن آية فى القرآن أراها جمعت نوعين من العلاقات أعقدها وأبسطها وهى قوله سبحانه : "يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" ، فابتدار الذهن عند من الله علينا بخلقنا ذكرا وأنثى هى تلك العلاقة الشرعية بينهما الحافظة للخلق والموصلة للخالق ، ثم تشعيب العلاقات بعد الذكر والأنثى إلى الشعوب والقبائل وبينها ما بينها من البون الشاسع والاختلاف الهائل لا يفضى إلى انعدام أى علاقة بالكلية ، بل يوجب أن تكون هناك بحد أدنى علاقة "التعارف" ، والتى لو تأملنا فيها وجدناها بداية للكثير من العلاقات بين الزوجين (بداية الآية) فى كثير مما يقع بين الناس .

والعلاقات هى فى الأصل نوع من التواصل بسبب ما ، فالإنسان الذى لم أتواصل معه بأى شكل كان ، والذى يعيش فى ركن ما من أركان المعمورة ، لم أره ولم أسمعه ولم أكاتبه ، فقطعا لن تكون ثمة علاقة بيننا ، والإنسان الذى قابلته مرة أو مرات ثم انقطعت بيننا السبل – وهو حى – بسفر ونحوه تبقى علاقتى به رهن بأسباب الوصل بينى وبينه ، ولذا فإن فى الأزمان الغابرة كان السفر والترحال وسوء الاتصال يفقد المرء علاقات كثيرة لو دام معها الاتصال لأنتجت خيرا كثيرا ، وهو ما انتفى فى عصرنا هذا ، إذ لم يعد هناك من تخشى أن تفقده فى هذا العالم شديد التشابك ، وبالتالى فإن المسئولية تجاه العلاقات صارت أوثق بكل المعانى .

ولكن ما دامت الأمور بهذا الوضوح فما المشكل إذن فى الأمر ، ولم يخسر بعض الناس بسبب علاقاتهم التى جعلها الله سبيلا لحياة أفضل ، ولم تنتج بعض العلاقات السلبية من العداوة والقطيعة والتخاصم والتحاسد – وكلها علاقات – فى غير موضعها ، لأنها موجهة لأناس لا يحق فيهم هذا بموجبات كثيرة سنها الله لخلقه ونظمها بين عبيده !

إذا عدنا إلى طرفى المعادلة نجد أنه يصح الابتداء من أيهما ، فقد يقابل الإنسان شخصا ما يتعرف عليه بقدر ما ، دون أن تكون هناك أى نية مبيتة لعلاقة محددة تعقب هذا التعارف ، ويظل كلاهما يتعمق فى الآخر ويكتشف مدى القرب والانسجام ، فيقرر أحدهما (أو كلاهما) ساعتها أن يحدد ملامح علاقة ما بينهما ، فنرى أنه يشاركه فى تجارة أو علم أو نسب .. إلخ ، وقد يحدث العكس عندما يتقابل شخصان وأحدهما أو كلاهما يعقد النية على علاقة معينة محددة من قبل ، كأن أذهب لمقابلة فى شركة فأتعرف على الشخص الذى يجرى معى المقابلة ، أو أذهب إلى محاضرة وأقيم علاقة مع المحاضر ، فتكون هذه العلاقات محددة سلفا وقد تتطور وتنتقل إلى الإنسان ذاته ، وقد لا تتطور وتقف على حد العلاقة نفسها دون الإنسان .

ففى الوجه الأول من التعارف أنت تقدر الإنسان لذاته ، فيدفعك تقديرك وإكبارك له إلى أن تتشاركا معا فى سبل الحياة عبر تلك العلاقات التى كلما زادت كلما تصاحبتما وتدانيتما أكثر ، وفى الوجه الثانى أنت تقضى حاجاتك أولا ثم تنظر لما وراء تلك العلاقة من الإنسان هل يستحق بذاته أن يقترب من نفسك أكثر ، أم أن دوره سيقتصر على تلك العلاقة متى تنتهى ينتهى معها .

والناس يخلطون كثيرا فى الوجه الأول بين الإنسان الذى عرفوه ولم يتغير ، وبين العلاقة التى أنشئوها وقد تتغير وتتبدل ، فترى الصاحب يجافى صاحبه إذا تشاركا فى تجارة وخسرت ، وترى الزوجين يتحولان إلى أعداء إذا انفصلا ، وترى أى طالب لفتاة كمن يطلب الملك ، إما أن يفوز فإلى الصدر وإما أن يخفق فإلى القبر .

وما ذلك إلا أنهم قد أغشاهم عالم العلاقات المرتبط بعالم الأشياء المادية عن عالم الأشخاص المرتبط بعالم الأفكار والمشاعر المعنوية ، فهل صاحبك الذى فشلت معه تجارتك تغير فى ذاته ، هل كان صاحب خلق فتخلى عنه ، أو صاحب علم فبار لديه ، وهل خاطبك أيتها الفتاة كان طيبا خلوقا طالما عرفتيه وسمعت عنه من بعيد حتى إذا ساقه حظه التعس إلى القرار بطلب علاقة بينكما ، ولم يكتب للعلاقة التوفيق ، كتب للإنسان نفسه ذات المصير ، وهو على حاله وأنت على حالك من التشارك فى دروب الحياة التى يتشارك الناس فيها لنفع الأمة وعمارة الأرض ، فإن لم يكن خطؤكم فى حق هؤلاء أن يظلوا محتفظين بمكانتهم الإنسانية عندكم ، فحق الأمة ألا تحرم نفع تلك العلاقات وأثرها فى المجتمع بأسره .

والناس أيضا تخلط فى الوجه الثانى من العلاقات ، فيطالبون أحيانا كل من يكون بينك وبينه علاقة محددة سلفا أن يكون أكيلك وشريبك وجليسك ، وقد لا ترى فى هذا الإنسان أن يأخذ فى نفسك تلك المنزلة وهذا حقك ، ولو شاكك حتى نصف وقتك فى الحياة فكان زميلك فى العمل أو فى الدراسة الذى تمكث معه جل النهار ، ولكن من فرض أن الذى يبدأ بالفرع حتما سيصل إلى الأصل ؟ ، ليس صحيحا ، فقد تقتضى الحاجة فى "العلاقة" وليس شرطا أن تقتضيها فى "الإنسان" ، والذين يخلطون أيضا فى هذا الوجه يكتشفون بعد الفوت أنه غمى عليهم ، وأن من أدنوه من أنفسهم لم يكن يستحق هذا ، وأنه أغراهم علاقاتهم به الظاهرة والمؤقتة .

وأصدق ما يروى فى هذا هو موقف عمر بن الخطاب من قاتل أخيه فى معركة اليمامة ، فقد أسلم الرجل بعدها ولقيه ابن الخطاب وهو أمير المؤمنين فقال له : والله إنى لا أحبك حتى تحب الأرض الدم ! ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين، أوَ يمنعني هذا حقي؟ قال: لا. فقال: أيحل هذا جَلد ظهري؟ قال: لا .. فقال الرجل: ما لي ولحبك إنما يبكى على الحب النساء ؛ فهنا أمير المؤمنين بينه علاقة وهذا الرجل ألا وهى الحاكم والمحكوم ن لكن الرجل يعرف جيدا أنه لا ريدي أن يتعداها ، ولما اطمأن أن هذا لا يؤثر على علاقته التى شرعها الله انصرف عن طلبه ما وراء هذه العلاقة .

والناس منذ زمن لا تكف أيضا فى الخلط بين الوجهين ذاتهما ، فعندما تقدم على الزواج مثلا قد تقدم "العلاقة" على "الإنسان" نفسه ، حتى إذا حدث للعلاقة أى خلل أودت بالإنسان نفسه ، ولا تلبث فى غالب الأحوال أن تستمر أصلا ، لأنها مبنية على الفرع والأساس هنا أن تـُبنى على الأصل .

ومهما أخفيت فإنه غير خاف أننى ما قصدت بكل هذا إلا العلاقات العاطفية تحديدا - مع خطورة غيرها أيضا- التى ما زالت تحط أقواما وترفع آخرين ، وقلما أجد نماذجا تستطيع أن تنتهى العلاقة بينهما فى أى مرحلة - من أول الفشل فى التقدم إلى فسخ الخطوبة إلى الطلاق بعد سنين – دون أن يمحو أحدهما أو كلاهما الإنسان نفسه من خريطة حياته ، وما يكون مقصد الإنسان الذى يقدم أصلا على العلاقة ؟ ، أليس تعميق الصلة والاحتفاظ بمكانته عبر الزمن ، أفيكون جزاؤه بعكس مطلبوه ، وهو قائم فى صفاته وأفعاله التى لو نسبت بقدها إلى اسم آخر كانت له مكانة أخرى من النفس ، فأى ظلم يحيق به ، وأى ضيم يحط به .

يوما ما كنت جالسا مع فتاة فى حضرة أبيها ، فقلت لها من أحب الناس إليك ، قالت : أبى ، قلت لها إجابتك منقوصة ، إذ أن هذا الشخص الجالس معنا لو لم يكن أباك لما أحببتيه وهو أعظم من ذلك حتى لو لم يكن أباك ، فقالت : وكيف ذاك ، قلت أوما سمعت الصحابى عندما سأل سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم ) من أحب الناس إليك ، لم يقل "زوجتى" وقال "عائشة" ، وعندما سأله : ثم أى ؟ ، قال "أبوها" ، ليس من باب تقديم "العلاقة" على "الإنسان" فهو يحب أبا بكر قبل أن يعرف عائشة ، وليس لمجرد أنه حموه ، ولكن من قبَل المبالغة فى إكرامها وإكرام منزلتها لديه .

فها هو أعظم الناس قدم "الإنسان" على "العلاقة" فى تعبيره عن حب أعز الناس له ، فيا أيها الناس ، إن لكم علينا حقا ، ولنا عليكم حقا ، ثابت طالما ثبتت نفوسكم التى عهدناها فيكم ، لا يتدبل ولا يتغير مهما تبدلت العلاقات وتبددت .

7‏/3‏/2012

الألم

تـُرى أى العلل يشكوها المرء أكثر ، علل الروح أم الجسد ، وتُرى أيهما أسبق ، أو أيهما تورث الأخرى ، أيهما تُشفى ولا تنتكس ، وأيهما تندمل ولكن تُنكأ ، أيهما يصلح المسكن لها .. فيخفف آلامها ، وأيهما تستدرجها المضادات إلى عالم الآثار الجانبية ، أيهما يرثى الناس لحال صاحبها ، وأيهما يهونون من شأنها .

أسئلة تملكتنى لأيام خلت ؛ فأنا لا أتذكر أن علة أصابت جسدى إلا إذا كنت فى أمس الحاجة إليها .. إلا عندما يكون الألم قد تملك روحى ولا أجد سبيلا كى يعرف الناس به فيشفقون على ، فأتمنى ساعتها أن يكون الداء ظاهرا ، حتى يكون لى مجرد الحق فى طلب الراحة ، أتذكر أيضا أن الداء الجسدى إذا جاء بلا علة نفسية فلا أكاد أذكره ، يأتى سريعا ويذهب سريعا ، كضيف حل فى غير موطنه ، فلا يلبث أن يرحل.

ولكن إذا كنا ندعى كثيرا أن الروح هى الأساس ، فلم لا يسترعى انتباهنا عليلو النفوس ، لم إذا قال أحدهم " اعذرنى أنا تعبان نفسيا هذه الأيام " ضحكنا ملء أشداقنا " شكلك بتحب .. ههههه " ، وإذا قال " أصابتنى نزلة برد " تغير لوننا وانكسرت نبرتنا " ألف سلامة عليك " .. لم يمكنـُك إذا أخبركَ الأولى أن تردف قائلا " طيب تسلمنى شغلك بكره وتبقى تحكيلى بعدين " ، وإذا كانت الثانية " طب نام واتغطى كويس وفى داهية الشغل .. أهم حاجة صحتك " ، لم نجد طبيبا واحدة لعلل النفس يسمى الطبيب النفسى ، يعافه الجميع ، ويربطونه بالأمراض العقلية ، ولم نجد لكل سنتيمتر فى الجسد طبيب متخصص أنف وعين وأسنان وقلب وجلد وظفر ..

الإجابات الجاهزة لدى "الإسلاميين" تبدأ بقوله تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " وبالطبع لا تنتهى ، لكننى حتى الآن لا أجيد الخلط بين خطى العلاقة مع الله والعلاقة مع الناس من الزاوية التكميلية ، أى أننى إذا ضعفت علاقتى بالله لا أستطيع تقويتها بعلاقتى مع البشر كذا العكس هناك نوع ما من ألم النفس لا يمنع القرب من الله أن تشكو منه ، وما كان عام الحزن على نبينا - عندى - إلا من هذا القبيل ، فلماذا إذا تألم حلقك قالوا خذ بالأسباب واذهب إلى الطبيب ولا يقولون تقرب من الذى بيده الشفاء ، وإذا تألمت نفسك قالوا : ذنوب تكاثرت ، حافظ على وردك .

آلام الجسد تدهشنى قدرة المسكنات على إخمادها ، تأخذ كل مسكن فى موعده ، حتى ينتهى تأثيره فتأخذ الذى بعده إلى أن تنتهى المضادات الحيوية من عملها، وتعود بعد أيام لحالتك الأولى ، أما آلام النفس ، فهيهات ، سكونها ما هو إلا محض تلاهٍ عنها ، حتى إذا عدت إلى تفسك وجدت الألم أعظم .

آلام الجسد إذا استفحلت قد يُستأصل موطن الألم ، أما آلام النفس أنى لها ذلك ! ، آلام الجسد قد تشفى ولا تنكأ ، أما آلام النفس فلا يوجد جرح فيها لا ينكأ ، لا يوجد ، أنا لا أذكر مرة مرضت فيها لأنى تذكرت أن فى مثل هذه الأيام من العام الماضى كنت مريضا ، لكن كم مرة بت ليلتى أتقلب لأن صباحى صباح عام جديد على ألم قديم .

آلام النفس تنكئها الكلمة ، و الهمسة ، والغمزة ، والإشارة .. آلام النفس يهيجها لحن ، أو دمعة ، مشهد غروب أوصوت كروان ، صافرة قطار أو مرجل باخرة ، تأتى توا ، بلا ارتفاع تدريجى فى الحرارة ، ولا صعوبة فى البلع ، ولا سعلات متفرقة فى اليوم ، ليس لها أعراض .. ليس لها أنواع من الطعام دون أنواع ، ولا ألوان من الشراب دون أخرى ، كل الأنواع والألوان تصبح فى ألم النفس طعما واحدا بلا لون .

عليل الجسد إذا تأوه تضورت له قلوب الناس من حوله ، وعليل النفس إذا نطق بالآه ظنوا به الجنونا ، وأى ألم أشد فى النفس من ألم لا تراه إلا أنت ، من ألم إذا أردت أن تصرخ منه خرج الصوت يشق أحشائك شقا ، خرج أنينا أبكما ، لا يكاد يبين إذا سُأل : مالك ، إلا : مفيش ، اللهم إلا أن يسعفه الله بـ "شوية برد" فيخرج من حرج الهم الواضح فى ظاهرة بلا علة تُعايَن .

وإذا ما تكالبت الآلام ، هل يصبح السبب الرئيسى فى انتهاء رحلة الإنسان هى تكالب آلام روحه ، أم آلام جسده ، الضغط والسكر والقلب هل هى أزمات نفسية تترجمها الأجساد إلى لغة تفهمها العيون المادية ؟ ، الشىء الذى نعرفه جيدا أن السبب الرئيسى لموت الحيوان هو علل جسديه ، فهل كل من وصلت به آلامه النفسية إلى حد الموت دونها كان راقيا ، هل كان يفاخر جميل بن معمر وهو العربى فى زمن التفاخر عن\ما سأل عن قومه : من قوم إذا أحبوا ماتوا ، وهل مدحته الجارية وأعلت قدره عندما ردت : عذرى ورب الكعبة ، هل كان الفخر بالموت فى ميدان من ميادين الشعور يساوى عند العربى الفخر بالموت فى ميادين المعامع !

هل أقتل نفسى بإدمان عذاب نفسى كما يقتل المدمن جسده بمسكراته ، هل يحاسبنى الله على إزهاق نفسى ، وذهابها حسرات ، أم يثيبها على ما أوذيت به درجات ، أقوى النفس أنا بعذاباتها أم ضعيف بعجزى عن رد الآلام عنها ، أتزيد أسئلتى من الألم أم تسكنه ، أتزيد أسئلتى من آلام مثلى أم تسكنها ، آه من تلك السؤالات إنها بحد ذاتها لهى .. الألم .