غزة ، وما أدراك ما غزة ..
غزة .. ليست مجرد مساحة من الأرض لا تبلغ نسبتها سوى 1% من مساحة فلسطين التاريخية .. ليست مجرد 44 تجمع سكاني يقطنهم مليون ونصف نسمة من السكان ..
ليست قطعة أرض يتناحر عليها أصحاب ألوية صفراء مع أصحاب ألوية خضراء .. ولا كرة لهب يتقاذفها 22 رويبضة يجلسون في اجتماعات مجلس جامعة الدول العربية ..
ولا طفلة مشوهة الأعضاء يشحذ عليها عشرات الفرق السياسية .. ويستجدون بها مواقف وأرصدة لحساباتهم ومصالحهم الشخصية .. ليست مجرد جرحا غائرا حين ينكأ نتصدّى ، وحين يندمل نتلهّى ، ولا مادة إعلامية يقدمها كل حسب رؤيته ، وحسب تخيلاته وأهواءه
إنما
غزة التي رأيت ، أهم من ذلك .. غزة التي عرفت أكبر من ذلك .. غزة التي علمت أقوى من ذلك .. غزة التي أحسست أعز من ذلك ولذلك يأتي هذا العمل غير مرتبط بموقف معين ولا بقضية جزئية من قضايا غزة ، وإنما هو عمل متمم لـ " قمة حماس وقاع عباس " ذلك السيناريو الذي تنبأت به من أول سيطرة حركة حماس على القطاع ، وصدق هذا السناريو حتى الآن . الطريق إلى غزة
الطريق إلى معرفة الحقائق من الأباطيل في هذا العمل ينبع من أكثر من مصدر :
1- زياتي الميدانية إلى القطاع في فبراير الماضي ، والتي اطلعت فيها على الكثير من الحقائق رأى العين .
2- جلوسي إلى عدد من القادة والمفكرين الفلسطينيين ، وأكثرهم غزاويين ، ومعظمهم - وليس كلهم - من حركة حماس ، وذلك في لقاءات متفرقة مكانا وزمانا في القاهرة ، وأيضا في غزة عندما ذهبت .
3- اطلاعي المستمر على كافة المستجدات في الشارع الغزاوي ، وذلك من خلال المواقع التي تنقل الصورة من قلب الأحداث هناك ، وقبل أن تصل إلى وسائل الإعلام الرسمية .
4- قرائتي للدراسات الصادرة من المراكز المتخصصة عن حالة القطاع منذ الحسم العسكري لحماس .
غزة .. التطهير الأول
12 سبتمبر 2005 هو تاريخ تطهير غزة من 23 مستوطنة إسرائيلية ، هو تاريخ لطرد 7781 مستوطن يهودي من القطاع في مشهد فريد لم يتكرر منذ إعلان دولة إسرائيل ، ولكن هذا اليوم لم يأت نتيجة خطة الانسحاب أحادية الجانب التي ظلت سنة كاملة في الكنيست حتى تمت الموافقة عليها ، ولكن كان هذا اليوم نتيجة للخسائر المتلاحقة على الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة من سلاح المقاومة الذي يتطور يوما بعد يوم ، ولكن الجديد في هذه المرحلة هو أمرين :
- الأمر الأول صواريخ المقاومة وتطورها الذاتي ، مما سبب قلقا متزايدا على مستوطني القطاع ، وهذا ما يفسر لنا اسجابة مستوطني القطاع لذلك ، وكل ما ظهر على الشاشات وقتها من الرافضين لهذا الإخلاء هو عدد قليل جدا بالنسبة للعدد الأصلي .
- الأمر الثاني هو معركة جباليا أو " أيام الغضب " كما يسميها القساميون ، هذه المعركة للأسف لم تأخذ حجمها الإعلامي المتوقع ، وتم التعتيم عليها بشكل كبير ، وهي معركة دارت رحاها ما بين 29-9-2004 إلى 17-10-2004 ، وخسر فيها الجيش الإسرائيلي - حسب اعتراف ضابط في جيش الاحتلال سابقا وعضو لجنة الأمن و الخارجية في الكنيست - 24 قتيلاً ، بالإضافة إلى عشرات الجرحى ، والأهم من ذلك أنهم لم يستطيعوا أن يدخلو معسكر جباليا في هذه المعركة ، ولم يستطيعوا أن يعيدوا احتلال شمال القطاع بعدها ثانية .
وهذا الفيلم ( قساميون في أيام الغضب ) يضع أيدينا على كافة تفاصيل هذه المعركة ، وأياضا يمكننا أن تستشف من خلاله تصورات معركة جباليا الثانية - التي سيتم الحديث عنها لاحقا - وأي معركة مقبلة عموما .
إذن أصبح المستوطنون في خطر ، وجنود الاحتلال - الذين هم حماية لهم - في خطر أيضا ، فلم يكن هناك بد من الانسحاب ، ومن هنا نفهم أنه لم يكن مجرد عطية ولا منحة للشعب الفلسطيني ولا هو " أحادي الجانب كما يسمونه " بل إنه هزيمة كبرى ، وإثبات لنتائج المقاومة بالمقارنة بنتيجة التفاوض التي لم تثمر عن شيء مماثل .
هذا التطهير إذن مهم جدا في فهم طبيعة الأرض الغزاوية الآن ، والشعب الغزاوي ، فهي أرض محررة ، والسائر في شارع صلاح الدين ( أطول شارع في غزة ) يجد عن يمينه ويساره عشرات الكيلومترات من أراضي فضاء ، قد كانت بالأمس القريب مستوطنات تقصل بين شمال وجنوب القطاع ، ويتضح ذلك مثلا عند مفترق الشهداء ( مستوطنة نيتساريم سابقا ) والذي استشهد فيه الطفل محمد الدرة ، حيث معالم المكان تبدو ممحوة بفعل تخريب اليهود لمستوطناتهم قبل الجلاء عنها .
غزة .. التطهير الثاني
كخروج أي مستعمر من أي شبر من أرضنا ، لا يخرج إلا وقد ربى على يديه قطاع كامل من الخونة والعملاء ، الذين يحافظون على مصالحه في فترة غيابه ، ويرحبون به إذا قرر العودة ثانية ، بعد أن تكون مهمتهم في ترويض الفريسة قد تمت ، وهذه حقيقة تاريخية في كل الشعوب المستعمرة ، وفي حالة الشعب الفلسطيني تكون المعادلة أصعب بكثير ، لأن الصفوف العميلة ليست فقط تسدي خدمة لعدوها على حساب شعبها ، بل هي تحافظ على حياة عدوها على حساب دماء شعبها ، وهذا هو الحاصل فمن تاريخ 25 / 1 / 2006 ( يوم فوز حماس في النتخابات التشريعية ) إلى تاريخ 13 / 6 / 2006 رصدت منظمات حقوقية ( منها المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ) أكثر من 175 حالات إطلاق نار من قبل ما يسمى بالأجهزة الأمنية على مدنين ومجاهدين راح ضحيتها مئات المواطنين ، وتفاصيل هذه الحوادث وأعداد القتلى ، وأيضا المعتقلين وعمليات التعذيب كلها موثقة في " الكتاب الأبيض " الذي أصدرته حركة حماس عقب الحسم العسكري . وأصبح من مكرور القول الآن أن ندلل على أن قضية الحسم العسكري هي عملية نظيفة مئة في المئة ( خاصة بعد تقرير مجلة فانتي فير الأمريكية الذي نشر مؤخرا ) ، وأن معظم التيار الفتحاوي هو تيار عميل من الدرجة الأولى ، ولكن ما نود التنبيه عليه ن أن غزة بعد التطهير الثاني أصبحت مدينة أكثر نقاء ، بل أستطيع أن أقول أنها البقعة الأنقى الآن بين عالمنا العربي والإسلامي ، وهذا ما سيُدلل عليه في أكثر من موضع .غزة الحدود
وفقا للسيناريو المطروح سابقا ، فإن إسرائيل باتت تعمل من اللحظة الأولى على عزل قطاع غزة ، ليس عن الجسد الفلسطيني وحسب ، بل عن الجسد العربي والإسلامي من كافة النواحي ، ولكن يبقى أنه على الأرض لا يوجد أكثر من ثلاثة معابر حدودية متاحة لغزة ، معبرين مع مصر وهما : معبر كرم أبو سالم ، ومعبر رفح ( بوابة صلاح الدين ) ، ومعبر مع الكيان الصهيوني ( معبر إيريز ) . أما معبر كرم أبو سالم فهي النقطة الحدودية الوحيدة التي تسيطر عليها القوات الإسرائيلية حتى الآن ، وتعتبره مغلقا أمام المواطنين والبضائع الفلسطينية ، دخولا وخروجا ، وهو المعبر الذي رفض الحجاج الدخول منه إلى قطاع غزة ، لأنهم يعلمون أن مصيرهم سيكون إلى سجون الاحتلال .
ولا يختلف عنه معبر إيريز ( على حدود شمال القطاع ) شيئا ؛ فبالرغم من أنه المنفذ الوحيد لتزويد القطاع بالمواد الغذائية والأساسية ، إلا أن الحصار أوصل بنسبة المواد الغذائية الداخلة للقطاع 10% من احتياجاته الأساسية ، أما المواد الأساسية الأخرى فصودرت تماما منذ ثمانية أشهر ، ولم يدخل القطاع منها شيئا حتى الآن .
إذن في ظل هذا الوضع الحدودي الخانق يبقى معبر رفح المخرج الوحيد للأزمة ، خاصة أنه معبر من المفترض خضوعه سابقا لعمليتي التطهير الأولى والثانية ، فبعد أن كان يسيطر عليه الاحتلال الإسرائيلي هو وكافة الشريط الحدودي بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية ، أصبح الآن محرر تماما ، ويمكنك أن تشاهد الأبراج الإسرائيلية الفارغة على طول الحدود ، كما تشاهد الدبابات الإسرائيلية المعطبة في أرض سيناء متذكرا نصر أكتوبر ، وأيضا هو محرر من اتفاقية المعابر ( 2005 ) التي تشرف عليها السلطة الفلسطينية ، وجهاز مخابراتها المتعاون بشكل تام مع الاحتلال ، بحيث يشكل بديلا عنه .
فبهذه المنطقية يكون معبر رفح هو المعبر المعول عليه في فك الحصار ، ولكن المشكلة تجلت في أن المعبر محرر من طرف واحد ، وأن الطرف الآخر ( مصر ) لا يعترف بهذا التحرير بل يتعامل بتعسف وتعنت أكبر منه حال سيطرة اليهود عليه .
ولذا فإن من المنطقي جدا أن نعرف بأن خطة نسف الحدود المصرية - وهي خطة طبيعية جدا في سياقها - تم التخطيط لها منذ ثمانية أشهر ، أي منذ استولت حماس على القطاع ، وعلمت كيف ستدار لعبة المعابر عليها ، وهذا التوقيت ليس جزافيا بل هو موثق ، وكاف لكي يقطع في كل ليلة - على مدار الثمانية أشهر - متر واحد من السور الحديدي بالأكسجين .
وقبل أن أغادر هذه النقطة أحب أن أنبه إلى أن مصر لا تتعامل حتى مع حدودها كأي بلد عادي ، ولا حتى وفقا للقوانين الدولية التي تتشدق بها ، فلا توجد دولة في العالم تغلق حدودتها مع جارتها ، إلا في حالة كونها عدوة لها في وقت حرب .
غزة الدولة
مهما سمعت عن غزة فلن تدرك أنها دولة حقيقية مستقلة إلا إذا ذهبت وعاينت ، وأحسست من أول وطأة قدم لك أنك تشعر بالأمان في دولتك ؛ فغزة تحققت لها عناصر الدولة كاملة ( الأرض .. الناس .. إرادة الناس " الحكومة " ) ، وهي بذلك يصدق عليها مصطلح الدولة أكثر ما يصدق حتى على كثير من الدول العربية والإسلامية ، التي لا تعبر حكوماتهم عنهم ، ولا تدار أرضهم بإرادتهم ، ولن أستطيع إحصاء مظاهر الدولة ، ولا لمظاهر كون هذه الدولة إسلامية بمعنى الكلمة في غزة كلها ولكن أمثل لبعض منها في هذه النقاط .
سياسيا
من أهم ما يميز الظاهرة السياسية في غزة هو حجم التسيس الشعبي ، حيث لا تجد - إلا نادرا - في غزة أناس عاديين غير مسيسين ، ليس لهم فصيل سياسي فضلا عن رأي ووعي سياسي بكل ما يجري حولهم ، وهذا قد يفسر لنا عدم انسياقهم وراء الدعاى السياسية الكاذبة ، أو ما يسمى بالتضليل السياسي على مستوى العالم ، ومن الغريب حقا أن تجد هذا العمق السياسي ممتد إلى الأطفال أصحاب الست والسبع سنوات ، حيث تجد الطفل منهم يعرف رموز العمل السياسي والجهادي من فصيله ، ومن الفصيل المقابل له ، ويذكر لك عشرات الأسماء والأحداث ، في موقف لا تجده لدي أبناء العشرين من مصر مثلا .
ظاهرة أخرى تم التضليل عنها إعلاميا وهي ظاهرة التنوع السياسي ، حيث أخذ الإعلام يفتري على حركة حماس كافة أنواع القمع السياسي في القطاع ، والحقيقة منافية لذلك تماما ، فأتباع حركة فتح الذين لم يتورطوا في أعمال القتل والسطو المسلح يتمتعون بكافة حقوقهم ، ويرفعون أعلامهم جهارا نهارا ، وأنه لا يوجد بيت في غزة إلا وعليه أكثر من علم لأكثر من حركة ، وكثير ما يجتمع العلم الأخضر مع الأصفر مع الأسود ، وهذا لا يبين حجم التنوع السياسي فحسب ، بل ونضج هذا التنوع الذي يتعايش بهذا الشكل العجيب .
أمنيا
الدولة تعني الأمان ، وشعوريا أحسست بأنني آمن على نفسي في غزة أكثر من مصر ، أما واقعيا ، فإن جهاز الأمن الوقائي قبل الحسم العسكري لم يكتف بعدم توفير الأمن ، بل تولى مهمة إشاعة الفوضى والفلتان الأمنى ، بحيث أصبح معظم الشارع الفلسطيني يحمل سلاحه أينما توجه ، ولو إلى السوق .
أما الآن فقد سنت حكومة حماس القوانين التي تغرم إطلاق النار ، أو حمل السلاح ، ولو حتى لمجاهدي القسام ، اللهم إلا في المناطق الدفاعية الحدودية المعروفة ، والتي تعرف بمواقع الرباط ، وأصبح الوضع الأمني في غزة من كبرى حسنات حماس في القطاع ، حيث يعترف بذلك أعدائها قبل أصدقائها .
اجتماعيا
استقرار اجتماعي طالما طالعت أشباهه في مجتمع المدينة في العصر الأول ، وفي مجتمع الأندلس في العصر الوسيط ، واليوم أجد بعضا منه في العصر الحديث .
هذا الاستقرار الاجتماعي يتمثل في شيء واحد ، وهو عدم احتكار فئة من المجتمع توجيه وبناء وقيادة المجتمع دونا عن الفئات الأخرى ، ففي غزة يقف الرجال في صف واحد مع النساء والأطفال والشباب .. في غزة يشارك الأطفال مشاركة حقيقية في بناء المجتمع ، وترى روح عبد الله بن الزبير الصغير ، والمعاذين تسري في أطفالها .. في غزة لا يتم الشاب فيها عشرين عاما إلا وهو متزوج وله عمل ، وله سلاح يرابط به في وجه أعدائه ، فضلا عن كونه طالبا أو مدرسا ، فالعلم عندهم ليس مرحلة انفصالية يتخم الشاب بها فترة في حياته ، ثم يلفظها دفعة واحدة بعد أول قرش يوضع في جيبه ، أو خاتم في يده .. النساء أيضا تشارك هناك في كل شيء حتى في صناعة السلاح القسامي .
ولذا ينعكس ذلك على البيت الغزاوي ، وعلى الشارع أيضا ، فلا تكاد ترى - في الشارع - امرأة بدون رجل ، ولا رجل بدون امرأة ( وهذا أيضا بسبب تعاملهم المنطقي مع موضوع تعدد الزوجات ) ، ولا أطفال متسولون ، ولا معاكسات في الطريق .. إلخ ، ولن أستطيع أن أحصي فعلا كم الراحة النفسية التي يجدها الإنسان بين دفء هذا المجتمع الذي يعيش شتى ألوان القهر .
ولكن برغم كل هذه الوقائع والحقائق فإن هناك أباطيل بشأن إجبار حماس المجتمع على التأسلم ، وهناك كتابات أخذت تحذر من تجربة مشابهة لطالبان ، ومن فرض حماس النقاب على النساء ، وإغلاقها للقهاوي ، ومنع التدخين ، وأشياء أخرى على هذه الوتيرة . وإن كانت الواقع يشهد بأن نسبة النساء المحجبات تصل إلى 90 % ( في معظم مدن القطاع التي زرتها ) ، نصفهم تقريبا منتقبات ، فإن حي مثل حي الرمال تجد فيه الكثير من السيدات بغير غطاء رأس ، والأكثر من ذلك تجد بعض محلات الكوافير بحجمها الطبيعي ، وتجد حتى بعض الإعلانات لشركات كبرى بها فتيات غير محجبات ، مما يؤكد على مرونة حكومة حماس مع المجتمع ، وأنها فقط توفر له الجو الذي يساعده على الاستقامة .
إعلاميا
أكاد لا أصدق نفسي إذ أقول إن النضج الإعلامي عند الحركات الإسلامية في فلسطين أكثر من النضج الإعلامي عند كثير من نظيراتها في الشارع الإسلامي ، و برغم الثغر الجهادي التي تنوء بتحمل واجباته ، إلا أن هذه الحركات لا تغفل عن دور الإعلام في خدمة قضاياها .
فمن أول مئات الصور التي تملأ الشوارع للمجاهدين والشهداء يحملون أسلحتهم وينطقون بوصاياهم ، إلى قناة وإذاعة صوت الأقصى الرائعتين ، تجد العديد من الوسائل الإعلامية التي يحرص علها حرصا شديدا ، ويبذل فيها بذل عال ، ولا أدل على ذلك من فيلم ( قساميون في أيام الغضب ) الذي يكشف عن الاهتمام الشديد بتصوير كل لحظة من لحظات العمل الجهادي بطريقة ( وثائقية / درامية ) ، وأيضا الاهتمام الكبير بالتواصل عبر الإنترنت ، وتفعيل دوره الإعلامي ، في تدثين المواقع ، والمنتديات .
والعجيب أن حماس من بعد تسلمها لزمام الأمور عاظمت من هذا الدور ، وتخطت مسائل خلافية كثيرة في هذا المجال ، ما زالت حركات أخرى تخوض فيها - كالتصوير والموسيقى وصوت المرأة - لدرجة أنها حولت بعض القساميين من العمل الجهادي المسلح إلى العمل الإعلامي ، لسد حاجة الناس إعلاميا ، في وقت يشهر الإعلام الخارجي كل أسلحته في وجه غزة بالذات .
عسكريا
من مخيم جباليا على الحدود الشمالية للقطاع ويظهر عن بعد مستوطنة سيديروت
لم أكن أنوي التحدث عن تفاصيل هذا الجانب طويلا ، إلا أن العملية العسكرية البرية الأخيرة ( الشتاء الساخن ) في بيت جباليا حدتني إلى توضيح الوضع العسكري الآن في غزة ، كي يتبين آخر وأهم فصل في هذا الملف ، وإن كنا سنقصره في الحديث عن الفصيل صاحب اليد الطولى في هذا الميدان ، وهو كتائب الشهيد عز الدين القسام .
ليست كتائب عز الدين القسام مجرد مجموعات صغيرة من المسلحين ، أو أنهم مجرد مجموعة من العصابات ، أو منفذي العمليات الاستشاهدية ، وإنما هي أقرب إلى كونها جيشا بالمصطلح الحديث ، فغزة مقسمة إلى ستة لوائات في الشمال والجنوب والوسط ، وكل لواء مقسم إلى عدة كتائب ، وفصائل ، ومجموعات ، هذا من حيث الكم والتغطية الشاملة للقطاع .
أما من حيث الكيف ، فقد أثبتت الكتائب في الفترة الأخيرة قدرتها على مجابهة العدو ، وتقدمها النوعي الذي نما سريعا بعد الحسم العسكري لسببين :
1- أن المعوق الرئيسي للمقاومة في القطاع ، وهو السلطة الفلسطينية ، قد زال ، وأصبح الشعب ظهير المقاومة وحاضنها .
2- كم المعدات العسكرية - من أول السيارات المجهزة إلى المضادات الأرضية - الأمريكية الفتحاوية التي حصلت عليها حماس بعد التطهير ، وكم المواقع المشرفة على أماكن حدودية حساسة ، والتي كانت تحت سيطرة فتح أيضا .
ولذا فإن الرهان الإسرائيلي على أي حرب برية على قطاع غزة هو رهان فاشل إلى أبعد درجة ، ويكفي أن نقول بأن عالم الرباط وحده كفيل بأن يلقن أي هجوم إسرائيلي درسا قاسيا لن ينساه ، فـَليل غزة ليس كليل أي مدينة ، حيث تكون الشوارع شبه خالية من بعد صلاة العشاء إلا من عشرات المرابطين من كافة الأعمار ومختلف المشارب والمهن والأفكار ، على كل ناصية شارع ، أو عطفة حارة ، أو وسط ميدان ، وكل ذلك موزع في خطوط دفاعية ثابتة ، يصعب على العدو اختراقها ، كما يصعب أيضا على الطيران قصفها مجتمعة ، ولعل معركة جباليا الثانية والتي قتل فيها خمسة جنود صهاينة وجرح العشرات ، لهي أكبر دليل على أننا نستطيع أن نقول الآن أن لدولة غزة جيش يحميها ، وهو مستعد لحماية كل فلسطين ، وكل هذه المعلومات أعلنت من قبل وتعلن ، ولكن الإعلام يعتم ويغطي ، ولا يعطي إلا صور الجرحى والشهداء المدنيين .
إن حرب الأيام الستة - كما سماها هنية اليوم في خطابه - لهي رصيد جديد ليس لحماس فقط ، ولا لفلسطين فقط ، بل للأمة كلها ، يجب أن تفخر وتفاخر به ، وتضمه إلى سلسلة ومضات النور والنصر الحقيقية التي تلمع في سماء هذه الأمة من قتلى الجنود الأمريكان في العراق ، وأفغانستان ، ومن دحر الاحتلال عن غزة ، ومن هزيمة إسرائيل في جنوب لبنان على يد حزب الله .
غزة .. مشروع أمة
وأخيرا عندما نتكلم هنا عن غزة الدولة ، لا نقصد بحديثنا أن تستقل غزة عن الضفة ولا عن فلسطين ، وإنما نعني أن نقر بأن حماس لم تفشل ، ولن تفشل ، وأنها جديرة بإدارة فلسطين كلها ، وأن تجربة حماس هى تجربة رائدة بكل المقاييس حققت التتصور الإسلامي الصحيح لمعنى الدولة من بعد عشرات السنين من سقوط الخلافة العثمانية وإن الفرق برأيي ليس إلا المساحة الجغرافية .
هذا أولا ، أما ثانيا فإننا - نعني الإسلاميين عموما - يجب أن نتعلم الكثير من حماس ، ونعلـَم الناس الكثير عن حماس ، التي تحارب أشد محاربة في كثير من وسائل الاعلام الرسمي وغير الرسمي - خاصة بعد عملية فتح الحدود - ويفتح عليها كل رويبضة لسانه السليط ، لينال ممن لا يستطيع أن يبلغ معشارهم ، نعم فهؤلاء السياسيون العرب راهنوا عن بكرة أبيهم بفشل نموذج حماس ، وها هو النموذج ينجح ويثبت نجاحه يوما بعد يوم ، ويتخطى بثبات عقبة بعد عقبة ملقيا بثقل النصر كله في كفتين لا ثالث لهما : الحركة الإسلامية .. إرادة الشعوب ، وبالطبع فإن الكفتين ضد مصالح أي مسئول أو حاكم عربي ، وأي عميل أو عدو صهيو أميركي في المنطقة .
ولا أستطيع في النهاية أن أكتم كلمة تغص في حلقي ، ألقاها على واحد من هؤلاء في مرارة وأسى ، وهو يتحدث عن الإسلاميين في مصر - وعلى رأسهم الإخوان بالطبع - حيث يقول : ظلهم تمانين سنه من البرلمان للزنازين .. ومن الزنازين للبرلمان .. وإيش سوو ؟!