13/6/2019
يمان
8/3/2016
من قريب !
المرة الأولى التى أصعد إلى الطائرة صعودا صعبا، كأنما روحى هى التى تصّعد فى تلك السماء، ولا ينفرج ما بها إلا فقط بذلك الشعور الخفى الذى يتملكها، أنها مشطورة نصفين، نصف معها ونصف هناك، وبينهما حبل متصل لا يتطاول ببعد مكان ولا بتغير زمان.
نعم، تصارع الشعوران، شعور البعد والنأى، وشعور القرب والوصل، شعور الجسد التى تحل فيه روحك، وشعور روحك التى تحل فى جسدى، وتتقاز أمامى تلك اللوحة المأطرة أعلى أريكتنا البيضاء: ليس الوجود بالجسد فقط
هنا أقع فريسة الحياة الموازية، تلك التى تملى على ألا أبتأس لألا تحزنى أنت، وأن أعيش كل ما أراه وأحفظ دقائقه فى نفسى وأعب من كل قكرة فيه حتى أبثه لك كما هو، كما لو أن كل ذرات ضوءه قد احتفظت بها فى غرفة سوداء بمحجرتي ونثرتا كقمرة قديمة أمام عينيك فلم يفت منها جزء.
عند الإقلاع قبضت براحتى على يديك وأرسلت نظرة عبر النافذة تقول لك قد انطلقنا، فى الرحلة أغمضت عينى وحكيت لك كل حكايات طابور الوزن والجوازات وخفاقات القلب خشية الإخفاق وقفزاته ساعة المرور، قضمت نصف قطعة الخبر المقدمة فى الفطور علك تقضمين نصفها التالى، فضضت شطر صفحة من كتاب ثم أغلقته عندما اعترضتى خيالي مرة أخرى ثم مرة ثم مرات، غضضت طرفى عن الصارمات المتزينات ورأيتك تنظرين إلى وتعلقين، هذه تضع زوائدا، وتلك قد نزعت حاجبيها ورسمت مكانهما مسخا، أما هذه فجميلة فعلا، وى حتى فى هذه لا تجورين .. أغض الطرف عنهم جميعا فليس فى حضرة وجود روحك إلا أشباح لا تُبين.
عند الهبوط عببت بأول هواء يدخل صدرى مرتين، مرة لى ومرة لك، ثبت عينى وأخذت أتجول وأحكى مرة أخرى، المطار والحافلة والوفد ومستقبلونا.. السماء والغيوم والخضرة والأمطار، السيارات والإشارات والطرق والجسور، كل شىء هنا يستحق أن يحكى، لا لأنه هو، بل لأننى رأيته لك.
عند الوصول إلى الفندق، تذكرت فندقنا فى تلك الواحة البعيدة، تخيلت أنك معى الآن، تجولين ببصرك فى بهو المكان متعلقة بذراعى نستلم غرفتنا، نصعد متوثبين، تنيرين الأضواء وتتفحصين كل شىء هنا وهناك، تدورين دورة فى المكان قبل أن تفردى ذراعاك وتلقى بجسدك لمتعب من السفر على الفراش المستقر فى منتصف الغرفة وتدعوننى بإماءة من عينك كى أفرغ يدى من حقائبها وأرتاح جانبك قليلا.
لا لا عفوا، هل قلت لك من قبل أن أفكر فى ذلك مرتين لا مرة واحدة، مرة كأنت أسماء، ومرة كأنت أسماء وورد، أما ورد فأفكر فيها داخل المرة الواحدة مرات أيضا، أحملها على يدى مرة وأربت بكفى على فقرات ظهرها اللينة، مرة أخرى أحملها على ظهرى فى حقيبتها .. أو أمسك بيدها التى ترفعها حتى تصل لأطراف كفى، هذه مرة رابعة أتابعها بعينى وهى تفز فى المكان الجديد وتلوح، أوأتابعها بشغف وهى تحمل حقائبها بنفسها وتحاول أن تقنعنى بأنها صارت كبيرة بما يكفي، تلك مرة أخيرة تتوسد يدها ذراعى كما تفعلين، وتنظرين أنت إلينا لتلتقطتى صورة وتقولين، أصبحت يا ورد عروسا.
الزيارات والأماكن الجديدة، المحاضرات والأكلات الغريبة، الدراجات والمظلات ومحطات القطار، اندهاشة الأمور الأولى، وظفر إماطة الجهل بشىء أو فهم، كل هذا من قريب أفعله معك، من قريب أشعر أنك هنا معى، وأننى هنا معك وبك فقط، فكل شىء عدا ذلك مجرد حاشية على نص أنت متنه
هنا أعرف أننى لا أستطيع إلا أن أكون منك قريبا، لأن البعد مُهلك، والنأى مُتلف، ولولا قصر الأمد لكانت حسرة الأبد، ولأن القرب حان، والوصل غير منته، أى حبيبتى وروح قلبى، أى صاحبتى وهداية عقلي، أى إنى من أقصى الأرض إلى أقصاها لا أبعد عنك إلا لأهيم بك وأقترب.
1/9/2015
حكايات عادية
نسيت أن أقول أن الكانولونى اليوم كان رائعا، وقبله الحواوشى كان فاتنا، أما المسقعة فقد وفيت حقها، أما كل يوم فمعك له قصة حب ونظرات وكلمات وأكلات وأفلام ونقاشات وحكايات مستمرة، شغف متصل بشغف، كاتصالى بكوب المانجة المحفوظ فى الثلاجة الآن نختتم به يوما جميلا آخرا
7/8/2015
عام من العشق ..
1/10/2014
عودة الروح
- آخر مقال كتبته أول أمس، على الموقع نزل
- لا أنت تعرف .. أوحشتنى تدويناتك .. تلك الروح التى كانت تسرى فى البيارق، وأوائل التدوينات على الفيس بوك: عندما كنت تكتب لنفسك، وليس للناس، للمتابعين، لعشرات الآلاف منهم
.............
آخر تدوينة كتبتها هنا منذ أكثر من عامين، ربما آخر تدوينة حقيقية كتبتها هنا دون أن اضطر لكتابتها مرة ثانية على "الفيسبوك" حيث التفاعل والصخب يعود تاريخها لعام 2010، أتذكر الآن كيف بدأت تلك التدوينات، كانت بالنسبة لى مدونة "مطبات" لمحمد رفعت شىء كالمعجزة، أن أكتب ويقرأ لى الناس ويعلقون، يا لها من معجزة، بعد شهرين قررت أن أطلق مدونتى، قررت أن أطلقها فى يوم الشجن العالمى الخاص بى، 10/6 .. الذى وافق هذه المرة أن أتم فيه عامى العشرين، كتبت لأول مرة "عندى عشرون" وكانت ولا زالت التدوينة التى أعرف بها، حتى أن كتابى الأول تجد أن أى شاب عشرينى يمر على هذه الكلمات فلا يملك سوى أن يقتبس منها على صفحته، لكن كانت صرخاتى الخاصة التى وددت إطلاقها فى الفضاء غير مبال بمن سمع أو لم يسمع !
الحياة هنا كانت مختلفة، كانت جميلة، كل منا يدخل إلى مدونته مرتين أو ثلاث مرات فى الأسبوع، يتأنق فى وضع الصور التى تزينها، أبيات الشعر التى تعبر عنه، روابط الموسيقى التى يحبها، يكتب كل أسبوع أو شهر تدوينة، ينمقها على مدار أيام طوال، ينشرها وكله شغف أن يجد تعليق أو اثنين، وعندما يجد التعليقات تقفز فوق العشر يفرح، يتابع الكلمات الرقيقة والجادة التى تعلق على نصه المحبب إلى نفسه، و ... أرانى قد تهت عن الموضوع الأساسى الذى أعادنى هنا، وظننت أنى أكتب مرة ثانية إلى الجماهير، تبا!
عدت هنا من أجلك، من أجل أن أكتب لك دون الناس ولا أبالى أشعروا بالأمر أم لا، جئت هنا ومنذ اللحظة الأولى التى بدأت أكتب فيها وفمى يصنع معزوفة قديمة يدندنا فى سلوك كدت أنساه، أشعر أن هذه الصفحة ليست مجرد وسيطا، وإنما كأنها روح، روح تتلبثنى، روح تختزل جزءا هاما من تارخى، اليوم وأنا أكتب عليها من جديد، كأنما أحكى لها حكايات جديدة، أنت التى سمعت تلك الأقاصيص والتى عرفتُ الآن أنها كانت صغيرة وزائلة، تعالى يا صغيرتى أقص عليك القصص القصص، تعالى أخبرك بالحواديت الطويلة التى لا أحصيها عن تلك الفتاة ..
نعم تعرفين لقد وجدتها أخيرا، ربما أخبرتك متأخرا لكننى كل هذا لم أكن قد أفقت من السكرة بعد، ولم أفق حتى الآن، لكننى تذكرت أن أحكى لك عندما عرفت أن فتاتى تحب كلماتى التى أحكيها لك .. هنا
فتاتى .. تريدين أن أحكى عنها، وكيف يحكى الإنسان عن ما لم يحط به، كنت أحكى قديما لأن الصورة التى أحكى عنها كانت محدودة، كان ألمى أو فرحى أو رحلاتى أو أحلامى كلها ماثلة فى أطر تحدها الحروف والكلمات، بل وتبالغ فبعد أن تحدها تضفى عليها ما تضفيه، أما الآن فصورتها لا أكاد أحيط بها .. أبدا أبدا
لم تنته أسماء - هذا اسم فتاتى - من إبهارى بما هى عليه بعد، فى كل يوم أقابلها فيه أدرك معنى جديدا من معانى الجمال لها تجعلنى أرجع عن قول قديم كنت زورته لها، لا اليوم هى أجمل من الأمس، على أن أقول فوق الذى ظننته، كل ساعة أنظر لها فيها وتقع عيناى على عينيها أقول مرة هامسا ومرة صارخا، من أين لك بهاتين العينين، هل أنت أنت من قابلتها الأسبوع الماضى وأقابلها منذ زمن، ولم تسرى تل الرعشة فى جسدى عندما أراك مثلما سرت أول مرة .. لماذا يا ترى ؟
حسنا لقد حاولت أن أكتب كالماضى، ولكنى فشلت، لم يكن قلمى ساعتها يحتبس أو يخجل أو يحار كما هو الآن، ترى ما الذى أبدأ به، دائما تكون العينان موضعا مناسبا للمبتدى والمنتهى على السواء، لكن عينيى أسماء هى موضوع للتيه، إن دخلته لن أخرج، وإن خرجت منه سأطلب العودة، ولا مفر !
ليس فقط لأنها تجمع لونى الشروق والغروب، ليس فقط لأنها باللون الذى أهيم به دائما، لون التاريخ والبيوت والأسفار، على معنييها، أسفار الناس فى الصحارى على الجمال، وأسفار الكتاب بورقها القديم، كل ذلك يشعرنى أن عيناها ليست إلا دواة قديمة لحبر معتق أكتب به من الأحلام والأيام ما شاء الله لى أن أكتب، فقط عندما تتوقف الشمس عن المغيب، سيتوقف افتتانى بعينى أسماء
آه .. وكل ما فى أسماء حسن، تعرفون لم، لأن الجمال دائما يكمن فى التفاصيل، وأسماء مولعة بها، مولعة بالمنمنمات، بالأقصوصات، بالأطفال الصغيرة، والحكايا الصغيرة، بنقوش حناء النساء، بزخرفات قباب سمرقند، مولعة بالحلوى الصغيرة، بروائح البخور والعطور والبهارات، معلقة بكل الأشياء الجميلة .. الصغيرة مثلها
نعم مثلها، مثل قلبها الطفل الذى لا أظنه قد كبر أو رأى من أهوال الدنيا فى يوم من الأيام أبدا، تظن أنها عندما تغضب منك أن قديمها ستدبان فى الأرض وشفتيها تلتويان حتى تصالحها كالأطفال الصغار، وتظن أنها عندما تفرح أنها ستتعلق برقبتك وتقبلك على وجنتك قبلة طفلة فى يوم عيد ..
تأخذ أجمل ما فى الأطفال : البراءة، وتترك أثقل ما فيهم : قلة العقل، فهى عندما يحزب الأمر تراها بعدما كانت صغيرة ناعسة بين يديك - تراها وقد تبدلت وكبرت فجأة كبرت بحيث تستطيع أن تفرد ذراعيها فتسد كل عين تصوب نحوك، وتجد نفسك مختبأ خلف ظلها كطفل يحتمى بأمه ممن يريدون أن يعبثوا به .. كقطة وادعة كشرت عن نابها وبرز مخلبها عندما شعرت بخطر على صغير لها
تعجب كيف يكون هذا وذاك فى امرأة واحدة، لا فلبرما هذا هو الأصل عندها أنها تجمع بين كل جميلين وإن كانا من عالمين مختلفين، فهى حولة الضحك عذبة الدمع، وهى رقيقة الانكسار قوية الصمود، وهى زاهدة العيش مفعمة بالحياة .. هى من هى .. هى أسماء .. هنا ابتدى الحكى عنها، وهنا لن ينتهى أبدا ..
أسماء .. أنا أحبك ..
10/3/2012
فلول أمن الدولة العربى !
مرهقا أنتظر ختما أخيرا على جوازى من موظف بدأ يبدى بعض علامات العجب عندما ضرب حروف اسمى على جهازه .. أبادره : هل من مشكلة ؟
- لا أبدا المشكلة من عندى على الجهاز .
يتريث قليلا ثم يختم بالفعل على الجواز ختما للدخول وتحته ختما للخروج فى آن .. ينظر مرة أخرى قبل أن يضغط على زر الإدخال فى حاسبوه ثم يتوقف فى اللحظة الأخيرة .. ينادى على زميل له فى العمل .. يتطلع فى الشاشة المحجوبة عنى ويبدى بعض علامات الدهشة هو الآخر .
يتبادلان بعض النظرات من باب "لا مشكلة" ، فيرد الآخر بنظره من باب "على مسئوليتك" فيكر الآخر بنظرة ختامية "لن أتحملها" .. وحينها يتوجه زميله بجوازى إلى مكتب مغطى زجاجه بأوراق داكنه فى الجهة المقابلة ويبتسم الأول فى وجهى ، عذرا سنتظر لدقائق .
"دقائق الانتظار املأها بالاستغفار" أطالع الملصق المستطيل المشهور الموضوع على زجاج الشباك الزجاجى الذى يحيل بينى وبين الموظف الذى أخذ يتقى نظراتى ، يرتد بصرى فجأة لأتأمل ملصقا بجواره مشابها طبعت عليه جملتان حسبتهما حديثا أو آية قرآنية كالعادة ، هى بين علامتى تنصيص كالعادة ، لكن يبدو أنها مقولة لأحدهم :
" انتهى عهد التخريب .. وإن عدتم عدنا ، وستكون عودتنا أقوى " .. وتحتها كتب اسم القائل : حمد آل الخليفة .. نظرت إلى الاسم وبدأت أطابقه بعشرات الملصقات الأكبر والأصغر التى ما زالت تصافح عينى منذ وصولى للمطار وعليها عبارات شبه موحده "كلنا فداك خليفة" "حمد كلنا فداك" وصورا لأخينا فى كل الأعمار ، وأحيانا يضعون معه صور أخيه فى الرضاعة العاهل السعودى فأزداد اتشاحا عن المنظر .. زورت فى نفسى الحمد لله الذى عافانا ..
دقائق وبرز لى من المكتب الذى أمامنا شاب ثلاثينى يلبس "الدشداشة" والعقال ويبتسم فى وجهى البتسامة عرفتها من النظرة الأولى ، وبدأ يسأل أسئلته المتوقعة :
حمد أليس كذلك ؟
- نعم .
- من وين جاى يا أحمد ؟
- (ما هو مكتوب عندك يا متخلف) من كوالالمبور سيدى .
- أحمد شنو بشتغل ؟
- (وانت مال أهلك) أعمل فى مجال الأفلام الوثائقية يا فندم .
- أخذ يتأمل فى الإجابة كمن فهم شيئا ثم ختم بنفس الابتسامة الصفراء ودخل المكتب ثانية .
كان صديقى الغزاوى وليد قد أنهى إجراءاته وينتظرنى ، أقتربت منه أسر إليه : يبدو أن هذه المرة أنا من سيعطلك لا أنت ، سنكون متساويان الآن مرة أنت ومرة أنا .
- ضحك وأردف : ما الأمر
- لا يمكننى أن أخطأ هؤلاء ، هذا رجل من أمن الدولة ، أو أيا يكن اسم هذا الجهاز اللعين هنا .
- أويعقل ، وكيف تصلهم معلومات عنك .. هل أوقفت فى مطار القاهرة وأنت قادم ؟
- بالطبع لا ، ولم أتوقع الأمر هنا مطلقا ، ولكن يدبوا أنهم لم يسمعوا بالثورة بعد ، وإنا لمسمعوهم يوما .
خرج الرجل السمج من المكتب مرة ثانية أوصل جوازى إلى الشباك وطلب منى استلامه من هناك ، وقفت أمام الموظف .. أخرج قلما وأخذ يشطب على الختمين ويكتب على كل منهما بحروف عربية ناصعة "ملغى" .. "ملغى" .. ويكاد القلم يستحى عبره من ختمين مجاورين مكتوب عليهما بحروف لاتينية "مرحبا" "مع السلامة" ، لم أستغرق سوى ثوان أمام موظفة ماليزية محجبة حتى حصلت عليهما .. يتقى نظراتى مرة أخرى ويسلمنى الجواز ، عفوا اذهب مرة أخرى للمكتب السابق وسخبرونك بالوضع الجديد
نطقت عنه فى صمت : عفوا أنت ممنوع من دخول دولة البحرين حتى لو كانت الزيارة لا تتعدى عشر ساعات .. عفوا دولتنا وكياننا أضعف من أن يتحمل وجودك الصورى على أراضيه .. عفوا إننا ملتزمون بسنن الله فى الأرض "أخرجوا آل لوط من قرتكم إنهم أناس يتطهرون"
استعرت ابتسامة صاحبنا السمج ورددت : فلا عبرت بى ساعة لا تعزنى ॥ ولا صحبتى مهجة تقبل الظلما ॥والشرف لى سيدى ألا أطأ بلادكم المحتلة وأنا الحر الثائر أبدا ..
توجهت لموظف الشركة مرة أخرى ، اعتذر لى بحرارة ، وسلمنى صكا بوجبتى غذاء وإفطار فى هذا "الترانزيت" الذى يستغرف عشر ساعات قبل وصول طائرتنا الأخرى إلى المطار ، سلمته الأوراق الخاصة بالمبيت لليلة واحدة فى أحد فنادق المنامة وأنا بنفس الابتسامة المستعارة .
توجهت لقاعة الوصول أتدبر أمرى ، اتصلت بأهلى أطمأنهم على كما وعدتهم ، تبسمت نبرة أبى عندما أخبرته بما حدث وقال : تحيا الوحدة العربية .
صدقت يا أبى .. تحيا الوحدة العربية ، الوحدة العربية التى بنت أنظمتها الفاسدة بلبات مختلفة لكنها ربطتها برباط واحد للدرجة التى عندما أستجوب فيها بضعة أيام فى القاهرة على جريمة دخولى إلى غزة خمسة أيام ، دون أية محاكمة أو أية عقوبة ، تسمع بالنبأ دولة خليجية ، فتضعه على أجهزة دولتها الرسمية ، وإن سمعت به الخليج فأولى بالسماع السعودية وسوريا والجزائر والأردن ، إنها الوحدة العربية .
إنكم تخدموننا بهذا الرباط الوثيق ، ونعم إن تخوفكم فى محله ، فإن بلدا تقع لهى نذير بسقوط الكل ، الكل لا محالة ، وأنتم أولى بهذا يا أكشاك الخليج ، أنتم مجرد أكشاك على الخليج العربى ، ولن ينفعكم درعكم ولا مجلسكم إذا دار دوركم ، ووالله إنى لأؤيد الثورة حتى لو قام بها شيعة ، حتى لو قام بها الفلبينيين فى أرضكم ، وإن دولة كافرة عادلة ، هى أقوم – كما قال ابن تيمية – من دولة مسلمة ظالمة ، فإن الأولى تضمن حرية الدعوة للإسلام فيرتجى من أصلابهم خيرا ، والأخيرة تفتن المسلمين فى دينهم ، وتصد الكافرين عن الإسلام بظلمها .
صبرا أيتها الممالك وصبرا يا بلاد الحجاز ، فأنت من الآن بلاد الحجاز لا ما تسمونه "السعودية" أى اسم هذا يعل فى الأرض ويتجبر حتى يسمى أرضا وشعبا باسمه ، فإن أشرف البشر لم تقم له دولة "محمدية" ولم يتجنس قوم باسمه الكريم فكيف أنتم ، ووالله لقد رأيت فتوة بلاد الحجاز القادمة فى فتية وفتيات أربأ بنفسى أن أدعوهم سعوديين وسعوديات ، هم حجازيون سيضربون اللحن الأخير فى معزوفة ثوراتنا .. والله الوكيل .
نزلت إلى المسجد تضطرم فى رأسى هذه الأفكار ، أحمد الله أن الموقف بعث أحاسيسى الثورية من جديد ، ما زال الطريق الثورى طويلا ، بخ بخ يا ثوار ، صليت المغرب والعشاء ، يالله إنها أول ليلة من رمضان .. نظرت إلى الوجوه العربية والمسلمة من حولى ، وجوه ماليزية وأفغانية وهندية وخليجية وعراقية وشامية ، دعوت الله أن ينظر لنا نظرة فيرحمنا ويزيل بنا حكاما أنجاسا مرتكسين .
أفترش ثلاث كراسى متجاورة وأتوسد حقيبة كتفى ، وأتقلب من برودة المكيف وأحاول أن أنام سويعات تدفع عن بدنى هجوم دور البرد الذى بدأ يفترسه حتى طلعت الشمس ولم أفق إلا على النداء : يعلن طيران الخليج عن قيام رحلته رقم 71 إلى القاهرة ، على جميع الركاب التوجه إلى بوابة 32 .
قمت وصليت ركتى الضحى واتجهت نحو البوابة أجد وليدا فى انتظارى يشتملنى بنظرات يحاول بها التخفيف عن وطء ليلتى .. بادرته : لم يكن الأمر سيئا ، على الأقل ليس بالسوء الذى كنت تواجهونه على معابرنا قبل الثورة .
- ضحك ضحكة خفيفة : وأنت الصادق ، وبعد الثورة أيضا .
- نظرت فى دهشة ، أستنطقه .
- ألا تعلم أن اثنين من غزة كانا معى وتم رفض عبورهما على الأراضى المصرية ، ومن ثم سفرهما إلى ماليزيا لأن اسمهما على الكشوفات الأمنية .
تيبس الدم فى عروقى ، بهت للحظات ، انطلقت الكلمات كسيفة أسيرة فى فمى : أجل صاحبى ، تهمتنا واحدة "غزة" تهمتكم أنكم من غزة فلا تطيقكم مصر ساعات عابرة ، وتهمتى أننى ذهبت إلى غزة فلا تطيقنى البحرين ساعات عابرة ، وما غزة إلا خروجا عن النظام العربى ، وما غزة إلا دولة واحدة وحيدة بلا جهاز أمن للدولة ، لا والله إنه جهاز رعب الدولة ، رعب كل دويلة من هؤلاء من أمثالنا ، من ثورتنا التى لن تبقى ولن تذر فصبرا .
ثلاث ساعات وكنا فى مطار القاهرة ، ملأت الاستمارة المصرية للعبور ، وملأ وليد استمارة عفوا "أجنبية" مررت فى ثوان وانتظرته من خلف فاصل حديدى ، نظر الضابط فى جوازه وأشار إليه بالانتظار .
انتظر قليلا ثم خرج رجل يبسم ابتسامة سمجة من مكتب فى الجهة المقابلة مغطى زجاجه بأوراق داكنة ، سلم عليه ورأيت شفتاه من بعيد تنطق بلسان عربى مبين من أين أتيت يا وليد .. ماذا تعمل ؟ لكنها لم تكن أسئلة كافية ، ولم يكن لسان وليد العربى أيضا لسانا شافيا ، اصطحبه معة إلى دهليز يطل على المكتب واختفيا .
انتهت إجراءاتى ، تسلمت حقائبى ، لم يظهر وليد ، ولا الرجل السمج الذى أخذ بيده ، سألت آخرين على باب الردهة ، أبحث عن صديق فلسطينى ، نظروا لى بريبة أشاروا لى بالدخول دخلت فى الردهة الطويلة ، وفجأة أغمضت عينيى وأخذت أتذكر ردهة مشابهة فى مبنى "لاظوغلى" معصب العينين أمضى وأمر على أضواء خافتة تنبعث من المكتاب مكتبا تلو الآخر وبشر يجلسون القرفصاء منكسوا الرؤوس ، فتحت عيناى على أحدهم هناك يجلس القرفصاء منكس الرأس .. ارتبكت قدماى وكدت أسقط ، سألت أحدهم مرة أخرى : فلسطينيى أحبث أنا .. لا ترهق نفسك سيتم ترحيله على بلاده .. امض أنت
مضيت على دقات أهلى الهاتفية يستحثوننى للخروج .. مضيت ومكث الفلسطينى .. مكث وأتى اليوم قبل ساعات ليخبرنى أنه لم يمض فى مطار القاهرة عشر ساعات بلا مأوى ، بل أمضى اثنين وعشرين ساعة بلا مأوى بعدما حقق معه .. ثم رحل عبر المعبر ..
هتفت هتاف أبى "تحيا الوحدة العربية" هتفت صبرا فلول أمن الدولة المصرى والخليجى ، يوما ما سيكون تجوالنا فى بلادنا أيسر من الثوانى التى انتظرناها على شباك جوازات ماليزيا ، ماليزيا البلد التى لا توحدنا بها جغرافيا ولا لغة ولا تاريخ وكان هذا مثالها معنا .. صبرا إن موعكم جيلنا .. أليس عهد جيلنا بقريب ..
8/3/2012
الإنسان .. والعَلاقة !
وما العلاقة ، العلاقة هى روابط منفصلة عن الإنسان مقدرة كجميع أقداره ، لكن منها ما جعله الله جبرا ظاهرا عليه كالأب والأم والابن والأشقاء وكل ما تفرع من صلات قرابة ، ومنها ما جعله الله خيارا له ، بداية من أعقدها على الإطلاق "الزواج" إلى كافة أشكال العلاقات على وجه الأرض صداقات ومنافع وتعلم وجيرة وعشيرة .. إلخ .
وإذن فهناك من العلاقات ما لن تستطيع أن تفصلها عن الإنسان ولا بموته حتى وهى العلاقات الجبرية ، وفى المقابل منها ما ننشؤه بإرادتنا ونقطع دابره بإرادتنا أيضا ، قد تساعدنا الظروف فى هذا أو تساعد علينا ، لكن فى كل الأحوال غالبا ما يعلق مصير العلاقة على قرار الإنسان نفسه .
وإذا كان الإنسان قد خلقه الله فردا وسيحاسبه فراد ، فإن العلاقة خلقها الله – فهى مخلوقة أيضا بقدره وحوله – أعقد من ذلك ، خلقها زوجين (أعنى طرفين) أو أكثر ، ورتب حقوقها وواجباتها على كلا الطرفين ، ولم يستثن الله إنسانا فى الكون دون أن يرتب له "علاقة" مع الإنسان الآخر لها حقوق وواجبات ، مهما كانت ماهية هذا الإنسان ، ولعمرى فإن آية فى القرآن أراها جمعت نوعين من العلاقات أعقدها وأبسطها وهى قوله سبحانه : "يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" ، فابتدار الذهن عند من الله علينا بخلقنا ذكرا وأنثى هى تلك العلاقة الشرعية بينهما الحافظة للخلق والموصلة للخالق ، ثم تشعيب العلاقات بعد الذكر والأنثى إلى الشعوب والقبائل وبينها ما بينها من البون الشاسع والاختلاف الهائل لا يفضى إلى انعدام أى علاقة بالكلية ، بل يوجب أن تكون هناك بحد أدنى علاقة "التعارف" ، والتى لو تأملنا فيها وجدناها بداية للكثير من العلاقات بين الزوجين (بداية الآية) فى كثير مما يقع بين الناس .
والعلاقات هى فى الأصل نوع من التواصل بسبب ما ، فالإنسان الذى لم أتواصل معه بأى شكل كان ، والذى يعيش فى ركن ما من أركان المعمورة ، لم أره ولم أسمعه ولم أكاتبه ، فقطعا لن تكون ثمة علاقة بيننا ، والإنسان الذى قابلته مرة أو مرات ثم انقطعت بيننا السبل – وهو حى – بسفر ونحوه تبقى علاقتى به رهن بأسباب الوصل بينى وبينه ، ولذا فإن فى الأزمان الغابرة كان السفر والترحال وسوء الاتصال يفقد المرء علاقات كثيرة لو دام معها الاتصال لأنتجت خيرا كثيرا ، وهو ما انتفى فى عصرنا هذا ، إذ لم يعد هناك من تخشى أن تفقده فى هذا العالم شديد التشابك ، وبالتالى فإن المسئولية تجاه العلاقات صارت أوثق بكل المعانى .
ولكن ما دامت الأمور بهذا الوضوح فما المشكل إذن فى الأمر ، ولم يخسر بعض الناس بسبب علاقاتهم التى جعلها الله سبيلا لحياة أفضل ، ولم تنتج بعض العلاقات السلبية من العداوة والقطيعة والتخاصم والتحاسد – وكلها علاقات – فى غير موضعها ، لأنها موجهة لأناس لا يحق فيهم هذا بموجبات كثيرة سنها الله لخلقه ونظمها بين عبيده !
إذا عدنا إلى طرفى المعادلة نجد أنه يصح الابتداء من أيهما ، فقد يقابل الإنسان شخصا ما يتعرف عليه بقدر ما ، دون أن تكون هناك أى نية مبيتة لعلاقة محددة تعقب هذا التعارف ، ويظل كلاهما يتعمق فى الآخر ويكتشف مدى القرب والانسجام ، فيقرر أحدهما (أو كلاهما) ساعتها أن يحدد ملامح علاقة ما بينهما ، فنرى أنه يشاركه فى تجارة أو علم أو نسب .. إلخ ، وقد يحدث العكس عندما يتقابل شخصان وأحدهما أو كلاهما يعقد النية على علاقة معينة محددة من قبل ، كأن أذهب لمقابلة فى شركة فأتعرف على الشخص الذى يجرى معى المقابلة ، أو أذهب إلى محاضرة وأقيم علاقة مع المحاضر ، فتكون هذه العلاقات محددة سلفا وقد تتطور وتنتقل إلى الإنسان ذاته ، وقد لا تتطور وتقف على حد العلاقة نفسها دون الإنسان .
ففى الوجه الأول من التعارف أنت تقدر الإنسان لذاته ، فيدفعك تقديرك وإكبارك له إلى أن تتشاركا معا فى سبل الحياة عبر تلك العلاقات التى كلما زادت كلما تصاحبتما وتدانيتما أكثر ، وفى الوجه الثانى أنت تقضى حاجاتك أولا ثم تنظر لما وراء تلك العلاقة من الإنسان هل يستحق بذاته أن يقترب من نفسك أكثر ، أم أن دوره سيقتصر على تلك العلاقة متى تنتهى ينتهى معها .
والناس يخلطون كثيرا فى الوجه الأول بين الإنسان الذى عرفوه ولم يتغير ، وبين العلاقة التى أنشئوها وقد تتغير وتتبدل ، فترى الصاحب يجافى صاحبه إذا تشاركا فى تجارة وخسرت ، وترى الزوجين يتحولان إلى أعداء إذا انفصلا ، وترى أى طالب لفتاة كمن يطلب الملك ، إما أن يفوز فإلى الصدر وإما أن يخفق فإلى القبر .
وما ذلك إلا أنهم قد أغشاهم عالم العلاقات المرتبط بعالم الأشياء المادية عن عالم الأشخاص المرتبط بعالم الأفكار والمشاعر المعنوية ، فهل صاحبك الذى فشلت معه تجارتك تغير فى ذاته ، هل كان صاحب خلق فتخلى عنه ، أو صاحب علم فبار لديه ، وهل خاطبك أيتها الفتاة كان طيبا خلوقا طالما عرفتيه وسمعت عنه من بعيد حتى إذا ساقه حظه التعس إلى القرار بطلب علاقة بينكما ، ولم يكتب للعلاقة التوفيق ، كتب للإنسان نفسه ذات المصير ، وهو على حاله وأنت على حالك من التشارك فى دروب الحياة التى يتشارك الناس فيها لنفع الأمة وعمارة الأرض ، فإن لم يكن خطؤكم فى حق هؤلاء أن يظلوا محتفظين بمكانتهم الإنسانية عندكم ، فحق الأمة ألا تحرم نفع تلك العلاقات وأثرها فى المجتمع بأسره .
والناس أيضا تخلط فى الوجه الثانى من العلاقات ، فيطالبون أحيانا كل من يكون بينك وبينه علاقة محددة سلفا أن يكون أكيلك وشريبك وجليسك ، وقد لا ترى فى هذا الإنسان أن يأخذ فى نفسك تلك المنزلة وهذا حقك ، ولو شاكك حتى نصف وقتك فى الحياة فكان زميلك فى العمل أو فى الدراسة الذى تمكث معه جل النهار ، ولكن من فرض أن الذى يبدأ بالفرع حتما سيصل إلى الأصل ؟ ، ليس صحيحا ، فقد تقتضى الحاجة فى "العلاقة" وليس شرطا أن تقتضيها فى "الإنسان" ، والذين يخلطون أيضا فى هذا الوجه يكتشفون بعد الفوت أنه غمى عليهم ، وأن من أدنوه من أنفسهم لم يكن يستحق هذا ، وأنه أغراهم علاقاتهم به الظاهرة والمؤقتة .
وأصدق ما يروى فى هذا هو موقف عمر بن الخطاب من قاتل أخيه فى معركة اليمامة ، فقد أسلم الرجل بعدها ولقيه ابن الخطاب وهو أمير المؤمنين فقال له : والله إنى لا أحبك حتى تحب الأرض الدم ! ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين، أوَ يمنعني هذا حقي؟ قال: لا. فقال: أيحل هذا جَلد ظهري؟ قال: لا .. فقال الرجل: ما لي ولحبك إنما يبكى على الحب النساء ؛ فهنا أمير المؤمنين بينه علاقة وهذا الرجل ألا وهى الحاكم والمحكوم ن لكن الرجل يعرف جيدا أنه لا ريدي أن يتعداها ، ولما اطمأن أن هذا لا يؤثر على علاقته التى شرعها الله انصرف عن طلبه ما وراء هذه العلاقة .
والناس منذ زمن لا تكف أيضا فى الخلط بين الوجهين ذاتهما ، فعندما تقدم على الزواج مثلا قد تقدم "العلاقة" على "الإنسان" نفسه ، حتى إذا حدث للعلاقة أى خلل أودت بالإنسان نفسه ، ولا تلبث فى غالب الأحوال أن تستمر أصلا ، لأنها مبنية على الفرع والأساس هنا أن تـُبنى على الأصل .
ومهما أخفيت فإنه غير خاف أننى ما قصدت بكل هذا إلا العلاقات العاطفية تحديدا - مع خطورة غيرها أيضا- التى ما زالت تحط أقواما وترفع آخرين ، وقلما أجد نماذجا تستطيع أن تنتهى العلاقة بينهما فى أى مرحلة - من أول الفشل فى التقدم إلى فسخ الخطوبة إلى الطلاق بعد سنين – دون أن يمحو أحدهما أو كلاهما الإنسان نفسه من خريطة حياته ، وما يكون مقصد الإنسان الذى يقدم أصلا على العلاقة ؟ ، أليس تعميق الصلة والاحتفاظ بمكانته عبر الزمن ، أفيكون جزاؤه بعكس مطلبوه ، وهو قائم فى صفاته وأفعاله التى لو نسبت بقدها إلى اسم آخر كانت له مكانة أخرى من النفس ، فأى ظلم يحيق به ، وأى ضيم يحط به .
يوما ما كنت جالسا مع فتاة فى حضرة أبيها ، فقلت لها من أحب الناس إليك ، قالت : أبى ، قلت لها إجابتك منقوصة ، إذ أن هذا الشخص الجالس معنا لو لم يكن أباك لما أحببتيه وهو أعظم من ذلك حتى لو لم يكن أباك ، فقالت : وكيف ذاك ، قلت أوما سمعت الصحابى عندما سأل سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم ) من أحب الناس إليك ، لم يقل "زوجتى" وقال "عائشة" ، وعندما سأله : ثم أى ؟ ، قال "أبوها" ، ليس من باب تقديم "العلاقة" على "الإنسان" فهو يحب أبا بكر قبل أن يعرف عائشة ، وليس لمجرد أنه حموه ، ولكن من قبَل المبالغة فى إكرامها وإكرام منزلتها لديه .
فها هو أعظم الناس قدم "الإنسان" على "العلاقة" فى تعبيره عن حب أعز الناس له ، فيا أيها الناس ، إن لكم علينا حقا ، ولنا عليكم حقا ، ثابت طالما ثبتت نفوسكم التى عهدناها فيكم ، لا يتدبل ولا يتغير مهما تبدلت العلاقات وتبددت .
7/3/2012
الألم
أسئلة تملكتنى لأيام خلت ؛ فأنا لا أتذكر أن علة أصابت جسدى إلا إذا كنت فى أمس الحاجة إليها .. إلا عندما يكون الألم قد تملك روحى ولا أجد سبيلا كى يعرف الناس به فيشفقون على ، فأتمنى ساعتها أن يكون الداء ظاهرا ، حتى يكون لى مجرد الحق فى طلب الراحة ، أتذكر أيضا أن الداء الجسدى إذا جاء بلا علة نفسية فلا أكاد أذكره ، يأتى سريعا ويذهب سريعا ، كضيف حل فى غير موطنه ، فلا يلبث أن يرحل.
ولكن إذا كنا ندعى كثيرا أن الروح هى الأساس ، فلم لا يسترعى انتباهنا عليلو النفوس ، لم إذا قال أحدهم " اعذرنى أنا تعبان نفسيا هذه الأيام " ضحكنا ملء أشداقنا " شكلك بتحب .. ههههه " ، وإذا قال " أصابتنى نزلة برد " تغير لوننا وانكسرت نبرتنا " ألف سلامة عليك " .. لم يمكنـُك إذا أخبركَ الأولى أن تردف قائلا " طيب تسلمنى شغلك بكره وتبقى تحكيلى بعدين " ، وإذا كانت الثانية " طب نام واتغطى كويس وفى داهية الشغل .. أهم حاجة صحتك " ، لم نجد طبيبا واحدة لعلل النفس يسمى الطبيب النفسى ، يعافه الجميع ، ويربطونه بالأمراض العقلية ، ولم نجد لكل سنتيمتر فى الجسد طبيب متخصص أنف وعين وأسنان وقلب وجلد وظفر ..
الإجابات الجاهزة لدى "الإسلاميين" تبدأ بقوله تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " وبالطبع لا تنتهى ، لكننى حتى الآن لا أجيد الخلط بين خطى العلاقة مع الله والعلاقة مع الناس من الزاوية التكميلية ، أى أننى إذا ضعفت علاقتى بالله لا أستطيع تقويتها بعلاقتى مع البشر كذا العكس هناك نوع ما من ألم النفس لا يمنع القرب من الله أن تشكو منه ، وما كان عام الحزن على نبينا - عندى - إلا من هذا القبيل ، فلماذا إذا تألم حلقك قالوا خذ بالأسباب واذهب إلى الطبيب ولا يقولون تقرب من الذى بيده الشفاء ، وإذا تألمت نفسك قالوا : ذنوب تكاثرت ، حافظ على وردك .
آلام الجسد تدهشنى قدرة المسكنات على إخمادها ، تأخذ كل مسكن فى موعده ، حتى ينتهى تأثيره فتأخذ الذى بعده إلى أن تنتهى المضادات الحيوية من عملها، وتعود بعد أيام لحالتك الأولى ، أما آلام النفس ، فهيهات ، سكونها ما هو إلا محض تلاهٍ عنها ، حتى إذا عدت إلى تفسك وجدت الألم أعظم .
آلام الجسد إذا استفحلت قد يُستأصل موطن الألم ، أما آلام النفس أنى لها ذلك ! ، آلام الجسد قد تشفى ولا تنكأ ، أما آلام النفس فلا يوجد جرح فيها لا ينكأ ، لا يوجد ، أنا لا أذكر مرة مرضت فيها لأنى تذكرت أن فى مثل هذه الأيام من العام الماضى كنت مريضا ، لكن كم مرة بت ليلتى أتقلب لأن صباحى صباح عام جديد على ألم قديم .
آلام النفس تنكئها الكلمة ، و الهمسة ، والغمزة ، والإشارة .. آلام النفس يهيجها لحن ، أو دمعة ، مشهد غروب أوصوت كروان ، صافرة قطار أو مرجل باخرة ، تأتى توا ، بلا ارتفاع تدريجى فى الحرارة ، ولا صعوبة فى البلع ، ولا سعلات متفرقة فى اليوم ، ليس لها أعراض .. ليس لها أنواع من الطعام دون أنواع ، ولا ألوان من الشراب دون أخرى ، كل الأنواع والألوان تصبح فى ألم النفس طعما واحدا بلا لون .
عليل الجسد إذا تأوه تضورت له قلوب الناس من حوله ، وعليل النفس إذا نطق بالآه ظنوا به الجنونا ، وأى ألم أشد فى النفس من ألم لا تراه إلا أنت ، من ألم إذا أردت أن تصرخ منه خرج الصوت يشق أحشائك شقا ، خرج أنينا أبكما ، لا يكاد يبين إذا سُأل : مالك ، إلا : مفيش ، اللهم إلا أن يسعفه الله بـ "شوية برد" فيخرج من حرج الهم الواضح فى ظاهرة بلا علة تُعايَن .
وإذا ما تكالبت الآلام ، هل يصبح السبب الرئيسى فى انتهاء رحلة الإنسان هى تكالب آلام روحه ، أم آلام جسده ، الضغط والسكر والقلب هل هى أزمات نفسية تترجمها الأجساد إلى لغة تفهمها العيون المادية ؟ ، الشىء الذى نعرفه جيدا أن السبب الرئيسى لموت الحيوان هو علل جسديه ، فهل كل من وصلت به آلامه النفسية إلى حد الموت دونها كان راقيا ، هل كان يفاخر جميل بن معمر وهو العربى فى زمن التفاخر عن\ما سأل عن قومه : من قوم إذا أحبوا ماتوا ، وهل مدحته الجارية وأعلت قدره عندما ردت : عذرى ورب الكعبة ، هل كان الفخر بالموت فى ميدان من ميادين الشعور يساوى عند العربى الفخر بالموت فى ميادين المعامع !
هل أقتل نفسى بإدمان عذاب نفسى كما يقتل المدمن جسده بمسكراته ، هل يحاسبنى الله على إزهاق نفسى ، وذهابها حسرات ، أم يثيبها على ما أوذيت به درجات ، أقوى النفس أنا بعذاباتها أم ضعيف بعجزى عن رد الآلام عنها ، أتزيد أسئلتى من الألم أم تسكنه ، أتزيد أسئلتى من آلام مثلى أم تسكنها ، آه من تلك السؤالات إنها بحد ذاتها لهى .. الألم .
23/9/2010
ألف ميم نون
مشتقاتُ هذه الأحرفِ تمتد لتشمل قيما كثيرة فى الحياة ، فمن أول اسم الله "المؤمن"، إلى الصفة التى يعتقد بها الناس فى أديانهم "الإيمان" ، إلى الهدف الأسمى الذى خلق الله البشرية من أجله "حمل الأمانة" ، إلى الوصف الذى أثبته الله على النعيم الأخروى " ما جمع الله لعبد من أمنين ولا خوفين .. ".
إذن فالأمن هو شعور معنوى له عناصر داخلية أغلبها مستقاة من مصادر غيبية أو ميتافيزيقية من فكرة الإيمان بالقدر، والإيمان بأن هناك حياة أخرى ، والإيمان بأن أى أذى جزئى (بدنى أو معنوى) للذات البشرية سيُعوض عنه الإنسانُ بشكل ما فى حياة أخرى ( حتى الشوكة يشاكها) ، وأن أى أذى كلى (الموت) سينقلها مباشرة إلى عالم آخر يتم التمتع فيه بالأمن الكامل (أولائك لهم الأمن وهم مهتدون) لأن فكرة الخلود نفسها هى "أمن" ضد الموت، ولذا فإن مشكلة غير المؤمنين دائما هو انعدام الأمن الداخلى الذى قد يؤدى بهم إلى الإسراف فى أحد الجانبين ، الحرص التام على عدم تعريض الذات البشرية للخطر (التأمين على الحياة مثلا ) ، أو التفريط التام فى تعريض ذاتهم للخطر (الانتحار مثلا ).
أما عناصر الأمن الخارجية فهى تتمثل فى أشياء مادية ، إذا لم تتوفر يصاب الإنسان بنسب من الخوف حتى لو كان لديه رصيدٌ كاف من عناصر الأمن الداخلى ، وهو بلاء كأى بلاء مادى يصيب الإنسان ( الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ) ، بل وينال من أعلى البشر الذين يتمتعون بالأمن الداخلى (وإذ زاغت الأبصار وبغلت القلوب الحناجر) ، وسماه الله خوفا بالمعنى الصريح مرتين فى سورة الأحزاب ( جاء الخوف / ذهب الخوف).
والعلاقة بين الأمنين الداخلى والخارجى أراها فى الغالب عكسية فى الحياة فإذا قل الأمن الخارجى زاد الأمن الداخلى ، لأن الركون إلى أسباب الأمن الظاهرة أو الدنيوية إذا انقطعت يلجأ الإنسان إلى توثيق صلاته بأسباب الأمن الداخلى اليقينى والغيبى ، وإذا زادت أسباب الأمن الخارجى فإن الإنسان يركن إليها قليلا على حساب اللواذ بأسباب الأمن الداخلى، هذا على مستوى الفرد ، فما الحاصل على مستوى الجماعة.
على مستوى الجماعة دائما ما تنسج لحظات انعدام الأمن الخارجى خيوط الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أسوء أو أفضل حالا على حسب درجات الأمن الداخلى الذى تتمتع به هذه الجماعة ، فأوقات الحروب أو الفتوح أو الثورات الداخلية دائما ما تنعدم فيها أسباب الأمن الخارجية لدى الجماعة ، لكن فى الوقت نفسه يقاس مدى نجاح النتائج المرتقبة من هذه المرحلة بعمق الأمن الداخلى الجمعى وقوة توجيهه فى الهدف الذى من أجله تجتمع هذه الجماعة عليه.
أما فيما بعد مراحل الاستقرار فإن منحيات الصعود والإبداع دائما ما ترتهن بمستويات عالية من الأمن الخارجى والداخلى على السواء (على مستوى الجماعة كما ذكرت ) ، فإذا كانت يد البنا لا تحكم رص اللبنات وهى مرتعشة ، فمن باب أولى يد الرسام لا تستطيع المسك بالفرشاة من الأساس إذا كانت أيضا مرتعشة .
لكن الأفراد غير التقليديين من القادة والعلماء والمبدعين دائما ما يتعاملون مع مساحة من الخوف الخارجى لأنه فى الغالب ما يقومون بإنتاجه يثير ردود الأفعال التى تكون تارة فى صالح هذا الإنتاج وتارة ضده ، فلو كان شيئا عاديا لا يغير من واقع الناس لما لفت انتباه أحد من الأساس.
لذا فالقاعدة الأساسية فى حياة الفرد أو الجماعة الطامحة المؤثرة أن تكون مستهدفا لألوان من الخوف يعزز من استفزازية تحركهم نحو ما يصبون إليه ، وفرض رؤيتهم فى الواقع كى يأمَنُ إليها من يلونهم من البشر البسطاء العاديين المؤيدين أو حتى التابعين.
تاريخيا نجدُ أن الجماعة المؤمنة كانت فى محل خوف خارجى شبه دائم ، يلخص حالتها مثلا إبان فترة تأسيس الدولة الإسلامية ( من أول الهجرة إلى فتح مكة ) وصفُ أحدِ الصحابة حالـَهم فى المدينة " كنا نبيت فى السلاح ، ونصبح فى السلاح "، أى أن جهوزيتهم للدفاع عن القيمة التى يؤسسونها فى الأرض كانت عالية للغاية، وكل ما أنتجته هذه الفترة وكل ما عايشه ذلك المجتمع – والقائد الأعظم بين ظهرانيهم – كانت فى حراسة السلاح ، ولو بالمعنى المعنوى ، أى الشعور بأن كل لحظة فى حياتهم نذر ووقف لمشروعهم، والذى يجلى من اتضاحه أمامهم عدوُهم المتربص بهم والذى لا يترك لهم مجالا للأمن الخارجى.
على مستوى الأفراد المؤثرين فإننى لا أكاد أجد رجلا له ذكر بين الأمم إلا إذا كان فى المقام الأول مات فى سبيل ما يدعو إليه أو على الأقل فى المقام الثانى أوذى وعذب أو سجن فى سبيل ذلك ، حتى إن الذين لم يصبهم شيئا من هذا يشك دائما فى كيفية تعاطيهم مع مخالفيهم خاصة إذا كانوا من ذوى السلطة ، فدائما السائر على الخط المستقيم لا يعدم الوقوع فى بعض الحفر التى على الخط ، أما الغير ملتزم بذلك الخط فيستطيع بكل سهولة الالتفاف والتلوى مع كل عقبة تصادفه ، مما يبطىء من سرعة وصوله للهدف أو حتى يُضله الطريق تماما.
فعندما نجد أن ثلاثة خلفاء من أصل أربعة فى عداد الشهداء ، ولو عددناهم ستة خلفاء بدخول عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن الزبير يصبحون خمسة خلفاء شهداء ، و عندما نجد أن أئمة الإسلام الأربعة لا يوجد فيهم من لم يسجن أو يمتحن نتأكد من ذلك، من أول أحمد ابن حنبل ومحنته الشهيرة، إلى الإمام أبى حنيفة الذى توفى فى سجنه من التعذيب الذى طاله وقد جاوز السبعين، إلى محنة الإمام مالك الذى ضرب نحو مئة صوت ظل أثرها على جسده حتى توفى رضى الله عنه ، إلى الإمام الشافعى الذى وضع القيد فى يده وكادت تضرب عنقه ، إلى العشرات من تلاميذهم ومن أهل العلم فى هذا الباب الواسع والكثير منهم أعجب عندما يذكر أنه مات فى محبسه ، ولا أعجب من أن نرى أعظم من أثروا فى الفكر الإسلامى القديم كابن تيمية أو الحديث كسيد قطب يتوفى الأول فى سجنه ويحكم على الأخير بالإعدام.
أما إذا خرجنا من باب العلماء والمفكرين فإن أبواب القادة والمجاهدين والدعاة والمصلحين مفتوحة على مصراعيها تسطر آلاف البشر من كل الأشكال والألوان لا فى حضارتنا فقط ، وإلى عصرنا الحالى لا يكاد الواحد منا يسمع عن رجل عظيم الشأن فيذهب لقراءة سيرته إلا ويجد له فى أيام عمره سجن أو محنة تصقل من معدنه، وتمِيزُهُ بين الرجال ، حتى أن الرجل الذى تفاخر به أقوامنا الآن على مستوى السياسة بين سجنه وتوليه رئاسة وزراء تركيا أقل من خمس سنوات.
ومع كل هذه السير وتلك المسيرات فإننى لا أدرى كيف وصلت ثقافة "الأمن" إلى وضعها الحالى فى مجتمعاتنا على مستوى الفرد المؤثر وعلى مستوى الجماعات الفاعلة ، هل بالفعل يشعر هؤلاء الأشخاص أن انعدام الأمن هو أمر غير مستغرب؟ ، أو بالأحرى لماذا يوجد حرص على وجود هذا الأمن والتضحية ببعض المكاسب الواجبة والمفروضة عليهم فى الطريق؟ ، وهل هناك درجة من انعدام هذا الأمن "التضحية" يجب أن نصل إليها أولا حتى نُعطى ما نطلبه ؟ ، لماذا لا يكون الاعتقال مثلا فى زمننا هذا هو أمر متوقع فى حياة كل فرد مؤثر؟ ، علامة مضيئة على الطريق ، وأن يكون العكس هو المستغرب، صحيح أننا لا يجب أن نتعامل معها على أنها من حق الظالم نفسه أن يعتقلنا كما يحلو له ، لكن فى الوقت نفسه ليس من حقنا أن ندفع هذا الخوف بالركون إلى خطوات من شأنها أن تبطىء عجلات الهدف الذى نصبوا لتحقيقه.
إن الطريقة الثورية فى الاحتدام بنقاط الجهل والتخلف والفساد والخواء لتُعرف من حجم الخوف الذى يلاقيه كل فرد وكل جماعة على خطوط هذه النيران ، وإن كل ابتعاد – فى وضع أمتنا الحالى – عن هذا الخط لا أخال إلا أنه يبطىء من النصر الوشيك.
دعونى أقول أن تلك الخواطر تجول فى جنانى منذ عام ، وها أنا – بهذه الليلة – أتمم عاما كاملا بعد تجربة اعتقال قصيرة ، قد أكون خسرت فى هذه نهاية هذا العام – بسبب الملف الأمنى – عملى كمراسل وكإمام وخطيب حر ، لكننى لا أستطيع أن أنكر أننى أفضل حالا بكثير، أن أجزاء كاملة من طرق التفكير ودروب العمل لدى قد تم دفعها بشكل صحيح ، والفضل أن "ألف ميم نون" أصبح لديها عندى معنى مختلف ومذاق خاص بعد تجربة مثل هذه .
حتى قد يكون الأمر أوسع من ذلك ، والنظرة أشمل من الأمن على النفس ، فحتى الأمن الاقتصادى وعدم المخاطرة برؤوس الأموال، أو الأمن على الأشخاص القريبين منى ودوام الاطمئنان المتبادل بينى وبينهم، أو الأمن العاطفى وعدم خوض تجارب ما كانت محظورة لدى سابقا، أو حتى تأخر السكن النفسى ذاته، كل هذا قد اتسق وتناسق وانتظم فى عقد جديد بعد أن كان متناثرا فى حياتى ليشكل منظومة لا تعرف الأمن ولا الأمان فى هذه الحياة ، وترتقبه فى حيوات أخرى .