للعام الثاني على التوالي تطالعنا الصحافة والإعلام الغربي بالإسائة العلنية والمباشرة ، لشخص الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، العام الماضي كانت الدنمارك ، وتبعتها فرنسا ، وهذا العام السويد ، والتي لم تفتأ منذ أن نشرت نفس أفكار العام الماضي ، أن تردد لا يمكننا الاعتذار ، وعندما توهمت بعض الصحف نبرة الاعتذار على لسان دبلوماسييهم سواء في السعودية أو باكستان ، حتى سارعت الحكومة بنفي هذا الفهم الخاطيء ... لا لم ، ولن نعتذر ، نعم إننا آسفون ، آسفون حقا .. آسفون على عدم تقبل المسلمين الإسائة بروح حضارية ! هذا ما قالوه في تصريحاتهم فعلا
وبهذه المناسبة أحب أن أعيد نشر رسالة لي في أحداث العام الماضي ، تضع أيدينا على جانب خفى من الموضوع لم أر أحدا تكلم عنه قط
_______________________________________________________
لنعلم من أين نؤتى

في سبتمبر الماضي سمحت صحيفة " جيلاندز بوستن " الدنمركية بنشر 12 رسما كاريكاتوريا مسيئة للرسول " صلى الله عليه وسلم " ومن قبلها النرويج ، وعندما قامت الجالية المسلمة بالدنمارك باستنهاض العالم الإسلامي ، قامت بعض الدول الإسلامية بقطع علاقاتها الدبلوماسية ، وبعضها قام بمقاطعات اقتصادية رسمية ، أو شعبية ، والبعض لاذ بالصمت ، ولكن الحكومة الدنماركية استغاثت بدول الاتحاد الأوروبي ، التي أعلنت رفضها لتعامل دول العالم الإسلامي مع القضية التي يعتبرونها " حرية رأي " حتى أعيد نشر الصور في صحف دول أوربية أخرى مثل ألمانيا ، وفرنسا .
ونحن هنا نحاول تقييم موقف هذا العالم الغربي ، لا من منظور الشرع – فهو معلوم لكل مسلم غيور على دينه ونبيه ، ولكننا سنقيم أفعالهم ومواقفهم بمعايير مفكرين منهم وعلماء وسياسيين ، لهم ثقل لا يمكن تجاهله على كافة المستويات ، بداية من موقفهم من شخص رسول الله نفسه ، إلى رأيهم الأخلاقي والقانوني من دعوى " حرية الرأي " تطبيقا على مثل هذه الوقائع ، إلى موقفهم من سلاح المقاطعة الذي أزعجهم ، فقاموا بمهاجمته على الرغم من إعتماده عندهم في كافة الخلافات .
أولا : موقفهم من شخص النبي صلى الله عليه وسلم
يقول أديب فرنسا الشهير لامارتين ( La Martine ) معترفا بعظمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونجاحه منقطع النظير في مهمته الجليلة " إن إنسانا لم ينهض أبدا – متطوعا أو غير متطوع – لمثل هذا الهدف الأسمى ؛ لأن الهدف كان فوق طاقة البشر ، لقد كان تحطيم تلك الحواجز من الأوهام والأحلام – والكلام له – التي حالت بين الإنسان وخالقه ، والأخذ بيد الإنسان إلى عتبة ربه ، وتحقيق عقيدة التوحيد النقية المعقولة الساطعة ، في ضباب هذه الوثنية السائدة ، والآلهة المادية ، إنه لم يحمل إنسان مثل هذه المسئولية الضخمة ، والمهمة الجليلة العظيمة التي تخرج عن طوق البشر ، بمثل هذه الوسائل الضئيلة " .
إلى أن قال : " لقد كان إخضاع ثلثي العالم لهذه العقيدة الجديدة من مآثره بلا ريب ، ولكن الأصح أنه كان كان معجزة العقل ، لا معجزة فرد واحد ، إن الإعلان بعقيدة التوحيد في زمن كانت فيه الدنيا تحت وطأة أصنام لا حصر لها ، كانت معجزة مستقلة بذاتها ، وما لبث محمد أن أعلن هذه العقيدة أمام الملأ ، حتى أقفرت المعابد القديمة من عبادها ، فلا داع فيها ولا مجيب ، وتكهرب ثلث العالم بحرارة الإيمان "
أما جون دريبر ( John Draper ) في كتابه " تاريخ أوربا الفكري والعلمي " : " لقد اجتمعت في محمد من الخلال والصفات التي غيرت مصائر الشعوب والأمم ، والحكومات والدول ، إنه أكد على الحقائق الثابتة الدائمة ، بدلا من الخوض في بحوث ما وراء الطبيعة ، ونذر نفسه عن طريق العناية ، والأمر بالنظافة والطهرة والجد ، والصوم والصلاة ، لترقية الحياة الاجتماعية .
ويؤكد هذا الموقف المنصف من أدبائهم ومؤرخيهم وكتابهم ، أن توماس كاريل
( Thomas Cariyl ) قبل مائتي سنة اختار محمدا ( صلى الله عليه وسلم ) من بين الأنبياء جميعا كبطل أعظم ، والآن في آخر القرن العشرين وضع مايكل هارت (Michael H.hart ) اسم محمد ( صلى الله عليه وسلم ) برأس القائمة لأسماء أولئك العظماء الذين تركوا آثار عظيمة في تاريخ العالم البشري " .
فكل من يتجاهل هذه الحقائق والشهادات من كبار رجالاتهم ، إنما يكذب على نفسه وأمته ، قبل أن يكذب على العالم .
ثانيا : موقفهم الأخلاقي من نشر هذه الأفكار
ونقدم هنا مقتطفا من مقال أحد الباحثين الكتاب وهو الأستاذ وليم هـ. داويدسن ( William H.Davidson ) في " موسوعة الأخلاق والديانات " يقول :
" إن أكبر مظاهر التسفل الخلقي ، واللؤم الفطري ، وموت الضمير ، وحمل الخزي والعار ، والحرمان من أي أثر من آثار الشرف الإنساني حتى الرمق الأخير منه ، هو : التنكر والجحود للقادة الدينيين ، وبناة الإنسانية ، وأصحاب المنة والفضل على العالم كله ، والبلادة في القول ، وسلاطة اللسان ، واستخدام الأسلوب الشائن المزري بأهله الذي لا يليق بأدنى شخص ، وبأرذل إنسان ، والذي لا يجرح مئات الملايين من البشر من أتباعهم ومحبيهم المستميتين دونهم والذين يؤثرونهم على أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، ولا يكلم عواطفهم الجياشة فحسب ، بل يقتل الحقائق ، ويذر الرماد في العيون ، ويحاول طمس الواقع ، ولا يجوز لأي مجتمع كريم يعرف قيمته ومكانته ، ولا لأي بلد متحضر لا يريد العيش في الجهل ونكران للجميل ، أن يصبر على وجود هؤلاء الأنذال واللؤماء الذين باعوا ضمائرهم ، وتخلوا عن إنسانيتهم ، وتنكروا للجميل والمعروف ، إنهم رجس يجب أن تتطهر الأرض منهم "
وهنا لم يكتف الكاتب بتحقير هؤلاء المسيئين للأديان وتسفيههم ، بل طالب بلادهم – والتي هي بلاده – بتشديد العقوبات عليهم إلى حد النفي .
وفي الاحتفال برأس السنة الهجرية ( 1427 ) في فيينا الذي دعا إليه ميخائيل هوبيل عمدة العاصمة النمساوية قال : " إن مانشر في هذه الصحيفة يتنافى مع الاحترام الذي من المفترض أن يلقاه كل دين ، فنحن لا نقبل الإسائة إلى الرموز الدينية ، أو إلى قيم أي دين "
فهاهم ساستهم يعترقون بأن هذا العمل لا أخلاقي ، ولا يستحق فاعله فردا أو جماعة ، الحياة على وجه الأرض .
ثالثا : موقفهم القانوني من دعوى حرية الرأي
عندما أعادت الصحيفة الفرنسية " فرانس سوار " نشر الرسوم المسيئة ، اعتبرت بكل تبجح أن هذا حقها في " حرية التعبير " ولكن الواقع أن عددا غير قليل من كبار المفكرين ، وفقهاء القانون الغربيين لم يعترفوا بحرية الرأي المطلقة العامة ، وأشاروا إلى نتائج هذه الحرية المطلقة ، والتي هي أشد ضررا وأكبر خطرا من سلب الرأي بتاتا .
ومن هؤلاء أحد رجال القانون المعروفين ويليام ايبسنتن ( William Ebenstsin ) يقول : " إن الاحتجاج ضد الرقابة الخلقية أو القوانين المتعلقة بالأخلاق الشخصية بناء على أنها قيود لا تطلق على حرية الفرد الشخصية – يعني الدفاع عن هذه القوانين وحمايتها ، إنها حاجات غير ملزمة ، أو أن قضاء هذه الحالات لا يمكن إلا بالتضحية بتلك المثل التي هي أعلى وأفضل من الحرية الشخصية ، والتي تكفل بقضاء حاجات البشرية العميقة الدقيقة ، إنها القيم العليا التي هي ليست داخلية ، بل تحمل أهمية موضوعية " .
ويضيف متحدثا عن ماهية الحرية : " أما إنه ما هي حدود حرية الفرد أو بعض الأفراد ، فهي قضية تعتمد على مقارنة دقيقة بين الإطار الذي يريدونه لحريتهم ، وبين مقتضيات القيم والمثل العليا كالمساواة ، والعدل ، والسلام ، والحفاظ على حقوق الناس ، ولذلك لا يمكن أن تبقى هذه الحرية مطلقة من القيود " .
وفي الخطاب الذي يعتبر أساسا لقانون حرية الرأي بالولايات المتحدة يقول بلاك استون ( Black Stone ) منبها على قضية " حرية الرأي " في الصحافة خصوصا : " إن كل فرد حر له الحق الشرعي في أن يبدي عواطفه أمام الجمهور ، وإن فرض الحظر عليه قضاء على حرية الصحافة ، ولكنه إذا أراد أن ينشر شيئا غير لائق ، يثير فتنة ، أو يخالف القانون ، فإنه يتحمل وزر مسؤوليته ، ولأن الكتابات الخطيرة الإجرامية التي تعتبر بعد مرافعة محايدة منصفة ذات ضرر وخسارة يلزم المعاقبة والتعذير عليها للحفاظ على الأمن والسلام ، والسلطة والديانة ، لأنها هي الأسس الذي تقوم عليه الحرية المدنية ، فضمير الفرد الحر ، مكفولة له الحرية ، ولكن التعذير على استخدامها السيء من أهداف القوانين الجنائية " .
رابعا : موقفهم من سلاح المقاطعة
اتهم بعض القادة والساسة الأوربيين أن مقاطعة الدول الإسلامية تعتبر غير مشروعة أو قانونية ، ولكننا نجد أن هذا السلاح يستخدمونه فيما بينهم على أبسط الخلاقات السياسية ، فعندما قامت الحرب الأمريكية الغاشمة على العراق ، قامت الدول الأوربية بمعارضة أمريكا في هذا القرار فما كان من الشعب الأمريكي إلا أن اختار سلاح المقاطعة ، ردا على هذا الموقف ، فيما يُظهر الاستطلاع الذي نُشر من أن 43% من الأمريكيين سيقاطعون المنتجات الفرنسية ، في حين قال 36% إنهم سيقاطعون السلع الألمانية !
ويستخدمونه أيضا ضد أي دولة تتقاطع مصالحها مع مصالحهم خاصة من منطقتنا وفي هذا الصدد يصرح عمر الراوي ( عضو برلمان فيينا عن الحزب الاجتماعي النمساوي ومفوض ملف الاندماج بالهيئة الدينية الإسلامية بالنمسا ) : " إن سلاح مقاطعة بضائع الدول التي تسيء صحافتها للنبي شيء عادي ومشروع ، فالولايات المتحدة نفسها تتعامل بهذا المنطق مع إيران ، وسبق أن استخدمته مع العراق ؛ لذا فمن حق الشارع المسلم أن يغضب لنبيه ، وهذا أقل ما يجب فعله " .
الدنمارك في ميزان التاريخ :
قد يُتفهم موقف شعب معين ذو حضارة وتاريخ من قضية مهمة أو شخص مهم لشعب ذو ثقافة مغايرة ، ولكن لا يتفهم موقف شعب لم تهذبه الحضارة والثقافة في تاريخه إلا لماما ، من أفكار وأشخاص شعب له ماض وحضارة ودين ، ضاربة في أعماق التاريخ .
" وإن الناظر في تاريخ الدنمارك يجد أن هذه البلاد الصغيرة البعيدة اشتهرت قديما بالقرصنة واللصوصية ، فقد كان القراصنة الدنماركيون يجوبون البلدان الإسلامية المطلة على المحيط الأطلسي ، والبحر المتوسط ، فيغيرون ، ويسرقون ، وينهبون ، ويهربون ، وقد كانوا فيهم كثرة من أهل الخسة والخبث ، ولهم باع طويل في الخراب والفساد ، وكتاب " سير أعلام النبلاء " يظهر الكثير من أخبارهم ، وما فيها من الشناعة ، والغدر ، والخيانة ، والخبث ، والفساد " .
وأخيرا :
فليس أمامنا – في الوقت الراهن – سلاح أقوى من المقاطعة ، هذا السلاح الذي قد يستهين به كثير من الناس ، أثبت فعاليته على مر التاريخ ، حيث استخدمته الهند ضد البضائع الإنجليزية لنيل استقلالها ، وأمريكا نفسها استخدمته عند الاستقلال ضد الإنجليز أيضا عام 1765 في قانونهم المعروف بقانون الطوابع
وقد أثبتت مؤخرا المقاطعة العربية للمنتجات الإسرائيلية والأمريكية منذ بدء الانتفاضة الفلسطينية – أثبتت نجاحها منقطع النظير ، فيما يصدره مكتب المقاطعة العربية من إحصائيات تقدر حجم الخسارة الإسرائيلية بأكثر من 92 مليار دولار ، بينما اعترف اتحاد غرف التجارة الإسرائيلية أن المقاطعة تسببت في خسائر كبيرة مقدارها 45 مليار دولار على مدار 45 سنة ، منها 20 مليار قيمة الصادرات الإسرائيلية المتوقعة للأسواق العربية ، و25 مليار عوائد الاستثمارات الإسرائيلية في الأسواق العربية خلال الفترة نفسها .
وقد نشرت جريدة الحياة اللندنية في ( 28 / شعبان / 1421 هـ ) أن خسائر شركات التكنولوجيا اليهودية في الولايات المتحدة ، بلغت منذ بداية الانتفاضة عشرين مليار دولار
.
المصــادر :
- " محمد الرسول الأعظم وصاحب المنة الكبرى على العالم " – أبو الحسن الندوي – دار الصحوة .
- " المقاطعة أضعف الإيمان " – عمرو عبد الكريم .
- موقع إسلام أون لاين .موقع الشيخ الألباني .