20‏/6‏/2010

صدمة 23


خطوُه يأخذ فى التسارع كلما اقترب من ذلك المبنى ، تتلوى قدماه وهو يلتفت برهة للبوابة التى دخل لتوه منها ويتمتم حامدا أن لم يسأله أحد عن هويته الجامعية ، يبدو أن استنتاجه كان صحيحا ، يبدو أنه بالفعل لم ينقطع تردده على هذا المكان بعد ، وجهه هنا ما زال مألوفا ، وجوههم أيضا .. هؤلاء الذين يقفون فى بوابة المبنى لم يتغير إلا واحدا أو اثنين ، تلتهم أقدامه الدرج بقوة ، يصعد دورا واثنين وثلاثة بنفس القوة ، يلهث عند آخر درجة ، يمرر عيناه على أبواب تلك الردهة ، لا بد أنه قد التحق بهذا القسم ، ينظر فى ساعته المكسور زجاجها ، عشر دقائق تبقت على الموعد ، يلمح مقعدا فى طرف المكان ، يلقى بجسده المرهق عليه ، يلتقط أنفاسه ، تدور عيناه فى المكان دورة كاملة قبل أن يغلقها تماما ، يضغط بأجفانه أكثر ، يحاول أن يهدأ ليراجع الساعات الغريبة التى مرت به منذ الصباح ، يجفف بمنديله قطرات العرق الخفيفة التى انتثرت على جانبى جبهته من أثر العدو ، يرتبك عندما يرى أثر الدماء التى على المنديل ، فيخفيه فورا فى جيبه ، تلمس أنامله الورقة التى بسببها هو الآن فى هذا المكان ، يرفعها أمام عينيه ن يحاول استنطاقها ، يتذكر جيدا أنها مقطوعة من مفكرته الأثيرة ، ذلك التاريخ المطبوع عليها وهذا الكلام المكتوب فيها لا يتذكر متى كتبه .. 10/6/2008 ، هذا هو التاريخ المطبوع ، و 10/6/2010 هذا هو التاريخ المزيل فى الورقة والمكتوب بنفس خط هذه البنود الخمسة ، لقد تأكد بالفعل أن يومه هو التاريخ المكتوب ، لقد التقط ورقة حالته المعلقة على طرف سرير المشفى مأرخة بـ 10/6/2010 ، الكثير من الحروف الإنجليزية غير المنسقة كانت منتشرة تستفل وتستعلى أسطر ورقة المشفى ، لم يسعفه فى الفهم إلا الكلمات التى استلقتها أذنه فى حالة نصف وعى ، كان أحدهم يهمس للآخر ، لعل صوته كان عاليا ولكنه لم يسمع إلا همسا ، كان يتحدث عن حادث .. عن احتمال فقد للذاكرة .. كان الآخر يبدد شكوكه .. كان يحدثه أن الصدمة كانت خفيفة .. أن الجروح طفيفة .. أن الفقد لن يكون إلا جزئيا .. أنه سيعود سريعا .. بمجرد أن يفيق ويرى بعضا من حياته المفتقدة فى الذاكرة .. لعل هذا هو الذى جلعه يفر فى غفلة من الممرضة التى ثقلت رأسها على باب العنبر ، ماذا لو بقى ، من المأكد أن أحدهم قلق عليه الآن ، لكنه لم يستطع ، الأحداث التى فى تلك الورقة ، تلك الورقة الوحيدة التى عثر عليها فى جيبه ، لا يمكن أن يتحمل تفويتها ويستسلم هناك راقدا على فراش المشفى ، بالتأكيد سيخسر ، يحاول أن يتذكر أكثر ، صور كلها مشوشة ومهتزة ، تحلق نفرِ يلبسون لأبيض ويتكممون بالأخضر فوق رأسه .. حركة عجلات السرير المتسارعة المتذبذبة فى أروقة رخامية ، أبواق سيارة الإسعاف المتتابعة ، آخر امتحانات الكلية .. لا لا لا ، محال هذا ، من المؤكد هناك خطأ ، ما .. يستدير برأسه ويضربها برفق مصطنع فى الحائط الرخامى خلفه ، يفتح عيناه فجأة ، منذ متى دخل الرخام كليتنا ، تبا إنه لا يتذكر أى شىء ، أى شىء عن عامين مضيا .

لا يبقى كثيرا على حالة ارتباكه هذه يصوب نظره شطر ذلك الموظف الذى ما زال يرقبه شذرا ، يهم إليه ويبادر بالتحية ، يسأله إذا ما كان اسمه فى كشف هذه اللجنة ، يرد مستنكرا : سيادتك لا تعلم ما هو قسمك ، يتردد برهة ك بلى أعلم ، قسم التاريخ لكنى لا أتذكر الرقم ، بعد تنهيدة تستفتح عينا الموظف قائمة اللجنة ، يعثر على الاسم فى أول صفحة ، تختلج قلبه فرحة عندما وقعت عيناه على اسمه أيضا ، يمرر الموظف اصبعه إلى أن يصل إلى الخانة التى فى آخر السطر ، ينظر إليه وقد مط شفته السفلى ، حضرتك محروم بالطبع من الامتحان اليوم ، لم تحضر أصلا طوال العام ، يتمتم بصوت خفيض : لم أحضر كيف لم أحضر ، ما المانع من حضورى ، أى عمل أخرنى عن هذا ، لا بد أن هناك ما كان يشغلنى ، لا بد أن عملا أهم فى انتظارى اليوم عوضا عنه .. أخذ يحدث نفسه زاهلا عن الموظف تسوقه قدماه إلى الدرج ثانية .

جلس لحظات يستعيد هدوءه على مقعد مقابل للكلية ، يمسك بالورقة ويقرأ أول سطر فيها قراءة أخيرة - قبل أن يمحوه تماما - : الذهاب إلى امتحان التمهيدى الماجستير – قسم التاريخ الإسلامى .

ينتقل برفق إلى السطر الذى يليه ، يمشى بتؤده هذه المرة ، يتذكر أو مرة صعد فيها هذا المبنى المقابل لكليته ، وذلك الدور العلوى الذى كانت تعلو مكاتبه التراب ، كيف كان أول اجتماع به مع أول فريق عمل ، خمسة كانوا وهو سادسهم ، لم يمض إلا أشهر حتى جاوزوا المئة ، يالله ترى كم وصلنا الآن ، وترى أى الفروع فتحت ، وترى من الآن يخلفنى فى منصبى ، وترى أى مفاجئة تلك التى من المفترض أن أخبئها لهم اليوم ، شىء من السرور أخذ ينمو بنفسه كلما اقترب من باب مكتبه ، سرور يعرف مذاقه من كل عمل تطوعى يقوم به ، ويشعر أنه بالفعل رصيد مباشر يضاف لأمته ، أخيرا تضغط يده على مقبض الباب يفتح برفق ويدفع بلين ، لا يدور المقبض ولا يستجيب لسانه ، يبدو أنه مغلق ، يتوجه للمكتب الذى بجواره ، شخص لا يتذكره يجلس هنا ، يبادر : أجديد هنا ، ينظر الشاب إليه وقد عقد حاجبيه ، يعنى من سنة تقريبا ، مين حضرتك ، يدور السؤال فى ذهنه بسرعة البرق ، إنه لا يعرفنى ! ، هنا من سنة ! ، لم آتى لمكتبى هنا منذ عام ، يالله ترى .. يقاطعة الشاب بنبرة أعلى : مين حضرتك ، يتلعثم ، لا أنا فقط كنت أسال عن مجموعة شباب .. نعم شباب يقومون بنشاط ما هنا .. نشاط اسمه "أبجد" تعرفهم .. سمعت عنهم ، يأخذ الشاب فى القهقهة : لقد رحلوا منذ زمن طويل . رحلوا كيف ؟ لمذا ؟ ، يتابع الشاب فى تلقائية مستنتجا : آآآآه .. أنت إذن من الأعضاء الذين نسوا أشياء لهم هنا ، ويأتون كل يوم والآخر كى يسألوا عنها ، ويصدعونا نحن ، حسن يا سيدى تعال ورائى ، وبحركة ميكانيكية أخذ العامل يعبث بعدد من المفاتيح أخرجها من جيبه ويتوجه بتلقائية إلى باب فى آخر الردهة ، ويفتحه بشىء من الدفع والتدافع من عشرات الأوراق التى بدت متكدسة خلفه ونادى نحوى : تفضل خذ ما تريده وارحل .

لا يكاد يصدق ما رأى ، لا يكاد يصدق أن الرجل الذى افتتح نموذجه عندما كان رئيسا لمركز فى الكلية هو هو الذى أغلقه عندما أصبح عميدا لها ، لا يصدق ما قاله ذلك العامل ، لا يصدق أن ما أنفقه فى أكثر من عامين راح أدراج الرياح ، تكدس أكوام فوق أكوام كالأطلال فى حجرة ضيقة ، لا يصدق أنه سيخرج الورقة من جيبه ، وسيمحو السطر الثانى ، أن زيارة لمكتبه فى نموذج مجمع اللغة العربية ، وتقديم هدية لمن يكملون مسيرته باتت فى عداد الأمنيات المستحيلة ، أن عليه التوجه للسطر الثالث ، بكل أمل ، وكل خوف ، بألف رجاء يجر أقدامه اليائسة إلى الحديقة المسماه فى جدوله المزعوم اليوم ، ينتظر لقاءه القادم .

الطريق من الجامعة إلى حديقته تلك المطلة على النيل ليس طويلا ، والموعد الذى كتبه قبل عامين هنا فى الورقة ليس قريبا ، آثر أن يقطع المسافة ماشيا على نسمات نيلية تلفح ذاكرته فتعيد لها ما سلبه حادثه ذاك ،لكن النسمات بدلا من أن تسترد شيئا من عقله أخذت ترسل أشياء من مآقيه التى تترقرق فى عينه منذا الصباح ، رباه لو كان لى أن أنسى أننى تركت الماجستير ، وأن مشروعى قد توقف رغما عنى ، فلا يجب أن يسقط من ذاكرتى أبدا موعدى القادم .. تتسابق الدمعات عندما يخطر بباله أن ماذا لو لم يكن ساقطا ، ماذا لو لم يكن موجودا من الأساس ، تكاد أنفاسه تقف على حافة السؤال قدماه تغوص فى عرض الممشى أيمن كوبرى الجامعة ، فى حركة جنونية اندفع بجسده كله كالرصاصة يطوى ما تبقى من الطريق عله يستبق قدرا ليس يسبقه .

دارت عيناه فى المكان حتى وقعت على طاولة غير مشغولة ، قصدها مضطرب الخطو ، جلس ضاما رجليه ويداه مقبوضتان عند ركبتيه وعيناه صوب المشهد النيلى الذى راح التماع ماءه - تحت وهج الشمس - ينعكس ويتلألأ فى عينيه فيزيد من ترقرق مائهما .

"ترى من تكون التى أنتظرها" ، حدق فى وجه النادل الذى أتى ليسأله عن طلبه وكاد ينطق ، لكنه ابتلع ريقه ، نظر على الطاولة ، أمسك بالقائمة ، ترى أى المشروبات تفضلها ، هل تحب الجوافة مثلى ، أم ترانا لا نطلب سوى الليمون ونوفر أى مليم لعصائر البيت الطازجة ، "أنتظر أحدهم ، سأطلب عندما يأتى" ، تململ النادل منه وأشاح عنه بوجه عابس .

أخذ يقلب ذاكرته فى صفحات وجوه فتيات من رأى ، من أحب ومن عرف ، من جاورها ، ومن زاملته ، من تأستذ عليها ، ومن تتلمذ لها ، من رنا إليها ، ومن إليه تزلفت ، أخذ يحاول تجميع صورة واحدة ، لا يريد سوى واحدة ، ترى أعيناها كما كان يحلو أن يلونها بخضرة الحقول وزرقة السماء والبحر ، أم بدكنة الغسق وحمرة الغروب ، أم بسواد الليل وغمقة العنبر ، تراها خمرية كمعتوق النبيذ أم شقراء كضى القمر ، تراها تقارعه بقلمها ، أم تباريه بصوتها ، تشعر به الآن ، تعرف ما حدث له فى الصباح ، ترى يعرفها لو أتت .. ضاق ذرعا بخيالاته ، وضاق بمقعده ، انتصب عوده النحيف وراح يضرب الأرض بخطوات غادية وراءحة ، يحدق فى وجوه الخلق ، يخيل إليه كل غادية أنها مقبلة عليه ، ترى هل تكون تلك .

أخذ اليأس يتملكه ، ينظر إلى ساعته المكسور زجاجها ، مرت ساعة ، ياه كيف نسى ذلك ، يكاد أذان العصر يُرفع ، لم يصل الظهر بعد ، انطلق إلى الزاوية التى يعرفها جيدا فى ركن من الحديقة ، لا يذكر أنه كان متوضأ ، أخذ يفضى من الماء على أطرافه فيكتشف بعض الجروح والكدمات التى أخذت تشى أن الحادث كان أشبه بالسقوط منه بالاصطدام ، ترك التفسيرات بعيدا ، ترك الماء أيضا على أطرافة يقطر ، وهم بالصلاة .

قرفص بعد الصلاة ووضع رأسه على تشبيكة أصابعه يحدق فى لا شىء ، لا يتذكر أنه أحس بلذه كهذه من قبل ، تملكه العجب ، إن خالق الحب لا يكلفك إلا أن تذكره فى نفسك حبيبا حتى يذكرك فى نفسه ، بمجرد أن يخطر على بالك .. نعم بمجرد أن يخطر على بالك ، تعلم أنه يذكرك ، يذكرنى ! ، وأى سعادة ينالها محبوب عندما يعلم أنه حبيبه الآن يفكر فيه ، فما بالك لو كان مخلوقا وهو خالق ، لكن لم تتفتق له هذه المعان التى لم يطالولها يوما ، تلك التى كان يفكر بها طوال تلك الساعات ولا يعلم أصلا أهى كائنة أم لم تكن بعد ، أيتوافق تخاطرهما ، أم يتنافر ، وما الذى عليه فعله كى ينهل بوصلها ، أن يبتغى سلما فى السماء أو نفقا فى الأرض ، لكن ما الذى عليه فعله كى ينهل بوصل الحبيب الأعظم ، أن يرفع يده ويهبط بها على صدره ، أن يصدح الله أكبر الله .. سمعها ترن فى الأفق تعلن صلاة العصر ، اندفع بجبهته تقبل الأرض وبروحه تحلق فى السماء ، وبلسانه يدعو الحبيب أن يهديه حبيبه فيه .

تسليمة عن اليمن وأخرى عن اليسار ، يرفع بعدها يده إلى جيب قميصه ، يخرج الورقة ، ويخط على السطر الثالث ، لم تأت له زوجة فى الموعد المحدد ، ضاق ذرعا بتلك اللعبة السمجة ، أخذ يمرر عينه فى بقية الجدول ، يذهب لشركته ويعقد اجتماعا تقييميا ، يصلى مع صديقه المغرب ، يذهب لبيته قبل العشاء ، لا يعرف من ذلك كله إلا صديقه الذى لا يخال أنه قد تغير ، ترى أين شركته تلك ، وهل هى موجودة أم ككل الأخريات كانت مجرد أمنية لم تر ضوء النهار بعد ، وترى بيته ذاك هو بيته فعلا ، أم بيت أسرته ، هل يجلس إلى الآن فى بيت والده ، لا يعقل هذا ، من يدلنى إذن من ؟ ، جمع أمره وانطلق من فوره إلى صديقه ، ما زالت معالم بيته الذى يتردد عليه لا يُخطؤها .

بيت صديقه لا يفصله عن بيت أهله سوى عدة شوارع ، ورغم ذلك أحب أن يذهب إليه أولا ، مؤكدٌ أن لديه تفسير أوضح لكل هذا . عند مدخل شارعهم رأى أخاه من بعيد ، استبشر وتوجه نحوه :

- كيف حالك حسان ، وكيف أخوك .
- بخير والحمد لله ، لكن يبدو أنه لن ينزل فى أجازة هذا الصيف .
امتقع وجهه وزاغت عيناه ، تابع بصوت تحشرج فى حلقه : ولم ذاك ؟
- يبدو أن المقام قد طاب له فى السعودية ، ضحك الفتى ثم ودعه ومضى بعيدا .

تسمر فى مكانه ، لكن دهشته لم تلبث طويلا ، مم يدهش ، ولم يدهش ، من أول يوم عرف فيه حاتم وهو لا يكف عن حديث السفر ، ودروب الهجرة ، من أول يوم عرفه فيه وهو يأتى كل يوم له ببلاد جديدة يقلب رأسها على عقبها ، يتعلم كل شىء عنها ، ثم يكتشف أخرى أكثر ميزة أو ميزتين فيتحول إليها ، يذكر أنه كان أكثر تعلقا بكندا ، نعم كانت حلمه الكبير ، لا يذكر أبدا أنه فكر بالسعودية من قبل ، ترى ما الذى جعله يحط رحاله هناك ، نعم كنت أعرف كل ذلك ، لكن من كنت أفكر فيه صديقا ساعتها عندما يسافر حاتم ، هل كنت أنوى البقاء بلا صديق ، ترى من اتخذت من بعده صديقا ، ترى ما سمته ، ترى ما خلاله .. وأخذ يعيد هزيانه فى أصبوحته النيلية بلا وعى .

عندما بلغ ناصية الشارع استقبلته الشمس بأشعتها القرمزية ، فبثت فى الأفق مشهدا جنائزيا مهيبا ، خطف قلبه عندما رنت عيناه إلى شرفة فى الشارع الذى يقابل بيته مباشرة ، بدت وكأنها تحمل له ذكرى أليمة لم يجف جرحها بعد ، كيف وهى شرفة تلك الفتاة التى هى الآن قد شب طوقها وما زالت أحلامى تراودنى أن أنتظرها عدد سنين فأظفر بها ، أخذ يرد ذلك الخاطر وهو يتمتم : أمسينا وأمسى الملك لله ها هو يدخل شارعه ، ويتمتم : اللهم بك أمسينا ، يرمق مسجد "فاطمة الزهراء" قد سمى باسمها ، ينقبض أيضا عندما ترتقى عينه إلى لوحته المنحوتة بخط الثلث المحبب له ، يمضى فى طريقه بلهفة يتسارع خطوة كمن يلاحقه عدو مباغت خلف أشجار غابة معتمة ، ويتمتم : أمسينا على فطرة الإسلام ، يسرع أكثر كلما اتقرب من البيت لم يتبق سوى بنايتين يسلم ساقه للرياح يتجاوزهما فى سرعة البرق ، تتسمر عند الدرج الذى همت بالتهامة .

- حمد لله على السلامة يا أحمد ، قالها وأخذه بين ذراعيه يحتضنه بقوة ، بل يعتصره فى عنف .
- الشيخ أنس !
- لا ، كان هذا منذ زمن ، أنا الآن ، أنس صديقك
- صديقى .
- اجلس ، وقل لى كيف سار يومك .

لم يحك شيئا ، حكى له أنس عن كل شىء ، حكى له عن اتصاله به ليلة أمس ، كان صوته عاليا ومضطربا كالممسوس يصرخ ويطلب منه أن يرافقه غدا فى ركوب الخيل " خشيت عليك بشدة ونصحتك ألا تذهب ، فى الفجر هاتفتك رد على أخوك وقال إنك تركت هاتفك ، وتركت المنزل فجأة ولم تعد من بعد الصلاة ، أدركت أنك بهذه الحالة مصاب لا محالة ، نزلت من فورى ولحقت بك عند المكان الذى نركب فيه الخيل دائما ، وجدتك محمولا على يدى أحدهم بعدما كبا بك الجواد من فرط اندفاعك به ، ذهبت معك للمشفى ولما قصصت للطبيب ما حدث ، أبلغنى هو الآخر بحالتك ، قدم إلى الورقة التى فى جيبك وقال أرجح أن فقد الذاكرة المحتمل ذلك سيبدأ من هذا التاريخ قبل سنتين من الآن ، ذكرت له أن الصدمة ستكون كبيرة عليك ، اقترحَ أن نتكرك تواجه ورقتك بندا بندا ، حتى لا تصعك الحقيقة كاملة ، اتصلتُ بأهلك لأطمأنهم ، وتغافل العاملون بالمشفى عنك ، حتى حدث ما كنا نتوقه ، وخرجت لتستقبل أحلامك وتراها بعينك ، لكن صدقنى أحلامك هذه رغم ذلك قد تحقق منها ..

لم يدعه يكمل أكثر من هذا ، أخرج ورقته وطلب منه أن يدله على المفكرة المنتزعة منها ، ناوله إياها ، قبض عليها بيديه المرتعشتين وخطا بقدميه الثقيلتين درج المنزل مودعا إياه : شكرا صديقى ، دخل البيت ، استقبلته الأحضان الحارة ، والأعين الدامعة ، أنسل من وسطهم ، أغلق باب حجرته خلفة ، تكوم جسده خلف الباب ومفكرته مضمومة إلى صدره ، فتحها برفق وأخذ يقلبها صفحة صفحة ، ويتذكر أيامه الضائعة يوما يوما ، يأسف لسفر صديقة ، يبرق لاجتماع قلبين يحبهما فى الله ، يرعد لفترة اعتقال مرت به ، يشهق لرحلة قصيرة إلى غزة ، يجزع لموت فاطمة ، يصل إلى صفحة الأمس ، يلتئم الماضى بالحاضر ، آخر مشهد مفقود ها هو يلتقطه ، ها هو يرى نفسه على ذلك الجواد الأبيض فى الصباح يعلو به ويهبط ، ينطلق به كالريح المرسلة ، ها هو يتذكر خلجات نفسه ويكاد يلمس وجهه المزعور رغم كل شىء ، كأنه كان يستعد للكبوة ، ها هو يشعر برأسه ترتطم بالأرض ، وتظلم الدنيا ..



يهب واقفا ، يستوى بجسده على المكتب يمسك بصفحة اليوم ، يمتشق القلم ويسطر ، ينتهى سريعا ، ويعلقها على الحائط ، يعاود القراءة بصوت هامس خفيض .

الأحد 10/6/2012

- أذهب لامتحان الماجستير .
- أتابع عمل "أبجد" .
- أقابل زوجتى فى الحديقة النيلية .
- أتوجه لمكتبى فى مؤسسة "الفراقد" للإنتاج الإعلامى .
- أحجز تذكرتين لقضاء عطلة الصيف مع حاتم فى كندا .

هناك 5 تعليقات:

mrmr يقول...

عذرا لعدم التعليق
فهذه دعوه خاصه جدا
http://jokes-egyptian.blogspot.com/

ولى عوده باذن الله

Moslma-N يقول...

لا تعليق
حقا صدمة
كلمات اخترقت التفكير و الوجدان كعادتك. أصلح الله أحوالنا جميعاو تبقى كلمة الله أكبر هى التى تصبرنا و تسيرنا

Moslma-N يقول...

ادعوك لقراءة هذه التدوينة فالقد ذكرت بعض من انجازاتك فيها و ان كنت تعلم أشخاص آخرين منجزين فأدعوك لأضافتهم فى التعليق
http://intlaka.blogspot.com/2010/07/2.html

Moslma-N يقول...

ادعوك لقراءة هذه التدوينة فالقد ذكرت بعض من انجازاتك فيها و ان كنت تعلم أشخاص آخرين منجزين فأدعوك لأضافتهم فى التعليق
http://intlaka.blogspot.com/2010/07/2.html

غير معرف يقول...

حقا صدمة كل دة كلام جالك قلب تعد تكتبة فعلا صدمة