23‏/9‏/2010

ألف ميم نون


مفاتيح سور القرآن ( ألم – ألر - .. ) لا يعلمها إلا الله ، أما هذا المفتاح ( أمن ) فهو أحد مفاتيح هذه الحياة الذى طالما حار الإنسان فى فهمه، مع أنه يمثل أحد ركائزه الأساسية، و بالرغم من أنه قد يكون أمرا معنويا للغاية، لكن الإنسان لا يستطيع العيش بدون نسب مُرضية له من هذا الأمن على اختلاف مصادره.

مشتقاتُ هذه الأحرفِ تمتد لتشمل قيما كثيرة فى الحياة ، فمن أول اسم الله "المؤمن"، إلى الصفة التى يعتقد بها الناس فى أديانهم "الإيمان" ، إلى الهدف الأسمى الذى خلق الله البشرية من أجله "حمل الأمانة" ، إلى الوصف الذى أثبته الله على النعيم الأخروى " ما جمع الله لعبد من أمنين ولا خوفين .. ".

إذن فالأمن هو شعور معنوى له عناصر داخلية أغلبها مستقاة من مصادر غيبية أو ميتافيزيقية من فكرة الإيمان بالقدر، والإيمان بأن هناك حياة أخرى ، والإيمان بأن أى أذى جزئى (بدنى أو معنوى) للذات البشرية سيُعوض عنه الإنسانُ بشكل ما فى حياة أخرى ( حتى الشوكة يشاكها) ، وأن أى أذى كلى (الموت) سينقلها مباشرة إلى عالم آخر يتم التمتع فيه بالأمن الكامل (أولائك لهم الأمن وهم مهتدون) لأن فكرة الخلود نفسها هى "أمن" ضد الموت، ولذا فإن مشكلة غير المؤمنين دائما هو انعدام الأمن الداخلى الذى قد يؤدى بهم إلى الإسراف فى أحد الجانبين ، الحرص التام على عدم تعريض الذات البشرية للخطر (التأمين على الحياة مثلا ) ، أو التفريط التام فى تعريض ذاتهم للخطر (الانتحار مثلا ).

أما عناصر الأمن الخارجية فهى تتمثل فى أشياء مادية ، إذا لم تتوفر يصاب الإنسان بنسب من الخوف حتى لو كان لديه رصيدٌ كاف من عناصر الأمن الداخلى ، وهو بلاء كأى بلاء مادى يصيب الإنسان ( الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ) ، بل وينال من أعلى البشر الذين يتمتعون بالأمن الداخلى (وإذ زاغت الأبصار وبغلت القلوب الحناجر) ، وسماه الله خوفا بالمعنى الصريح مرتين فى سورة الأحزاب ( جاء الخوف / ذهب الخوف).

والعلاقة بين الأمنين الداخلى والخارجى أراها فى الغالب عكسية فى الحياة فإذا قل الأمن الخارجى زاد الأمن الداخلى ، لأن الركون إلى أسباب الأمن الظاهرة أو الدنيوية إذا انقطعت يلجأ الإنسان إلى توثيق صلاته بأسباب الأمن الداخلى اليقينى والغيبى ، وإذا زادت أسباب الأمن الخارجى فإن الإنسان يركن إليها قليلا على حساب اللواذ بأسباب الأمن الداخلى، هذا على مستوى الفرد ، فما الحاصل على مستوى الجماعة.

على مستوى الجماعة دائما ما تنسج لحظات انعدام الأمن الخارجى خيوط الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أسوء أو أفضل حالا على حسب درجات الأمن الداخلى الذى تتمتع به هذه الجماعة ، فأوقات الحروب أو الفتوح أو الثورات الداخلية دائما ما تنعدم فيها أسباب الأمن الخارجية لدى الجماعة ، لكن فى الوقت نفسه يقاس مدى نجاح النتائج المرتقبة من هذه المرحلة بعمق الأمن الداخلى الجمعى وقوة توجيهه فى الهدف الذى من أجله تجتمع هذه الجماعة عليه.

أما فيما بعد مراحل الاستقرار فإن منحيات الصعود والإبداع دائما ما ترتهن بمستويات عالية من الأمن الخارجى والداخلى على السواء (على مستوى الجماعة كما ذكرت ) ، فإذا كانت يد البنا لا تحكم رص اللبنات وهى مرتعشة ، فمن باب أولى يد الرسام لا تستطيع المسك بالفرشاة من الأساس إذا كانت أيضا مرتعشة .

لكن الأفراد غير التقليديين من القادة والعلماء والمبدعين دائما ما يتعاملون مع مساحة من الخوف الخارجى لأنه فى الغالب ما يقومون بإنتاجه يثير ردود الأفعال التى تكون تارة فى صالح هذا الإنتاج وتارة ضده ، فلو كان شيئا عاديا لا يغير من واقع الناس لما لفت انتباه أحد من الأساس.

لذا فالقاعدة الأساسية فى حياة الفرد أو الجماعة الطامحة المؤثرة أن تكون مستهدفا لألوان من الخوف يعزز من استفزازية تحركهم نحو ما يصبون إليه ، وفرض رؤيتهم فى الواقع كى يأمَنُ إليها من يلونهم من البشر البسطاء العاديين المؤيدين أو حتى التابعين.

تاريخيا نجدُ أن الجماعة المؤمنة كانت فى محل خوف خارجى شبه دائم ، يلخص حالتها مثلا إبان فترة تأسيس الدولة الإسلامية ( من أول الهجرة إلى فتح مكة ) وصفُ أحدِ الصحابة حالـَهم فى المدينة " كنا نبيت فى السلاح ، ونصبح فى السلاح "، أى أن جهوزيتهم للدفاع عن القيمة التى يؤسسونها فى الأرض كانت عالية للغاية، وكل ما أنتجته هذه الفترة وكل ما عايشه ذلك المجتمع – والقائد الأعظم بين ظهرانيهم – كانت فى حراسة السلاح ، ولو بالمعنى المعنوى ، أى الشعور بأن كل لحظة فى حياتهم نذر ووقف لمشروعهم، والذى يجلى من اتضاحه أمامهم عدوُهم المتربص بهم والذى لا يترك لهم مجالا للأمن الخارجى.

على مستوى الأفراد المؤثرين فإننى لا أكاد أجد رجلا له ذكر بين الأمم إلا إذا كان فى المقام الأول مات فى سبيل ما يدعو إليه أو على الأقل فى المقام الثانى أوذى وعذب أو سجن فى سبيل ذلك ، حتى إن الذين لم يصبهم شيئا من هذا يشك دائما فى كيفية تعاطيهم مع مخالفيهم خاصة إذا كانوا من ذوى السلطة ، فدائما السائر على الخط المستقيم لا يعدم الوقوع فى بعض الحفر التى على الخط ، أما الغير ملتزم بذلك الخط فيستطيع بكل سهولة الالتفاف والتلوى مع كل عقبة تصادفه ، مما يبطىء من سرعة وصوله للهدف أو حتى يُضله الطريق تماما.

فعندما نجد أن ثلاثة خلفاء من أصل أربعة فى عداد الشهداء ، ولو عددناهم ستة خلفاء بدخول عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن الزبير يصبحون خمسة خلفاء شهداء ، و عندما نجد أن أئمة الإسلام الأربعة لا يوجد فيهم من لم يسجن أو يمتحن نتأكد من ذلك، من أول أحمد ابن حنبل ومحنته الشهيرة، إلى الإمام أبى حنيفة الذى توفى فى سجنه من التعذيب الذى طاله وقد جاوز السبعين، إلى محنة الإمام مالك الذى ضرب نحو مئة صوت ظل أثرها على جسده حتى توفى رضى الله عنه ، إلى الإمام الشافعى الذى وضع القيد فى يده وكادت تضرب عنقه ، إلى العشرات من تلاميذهم ومن أهل العلم فى هذا الباب الواسع والكثير منهم أعجب عندما يذكر أنه مات فى محبسه ، ولا أعجب من أن نرى أعظم من أثروا فى الفكر الإسلامى القديم كابن تيمية أو الحديث كسيد قطب يتوفى الأول فى سجنه ويحكم على الأخير بالإعدام.

أما إذا خرجنا من باب العلماء والمفكرين فإن أبواب القادة والمجاهدين والدعاة والمصلحين مفتوحة على مصراعيها تسطر آلاف البشر من كل الأشكال والألوان لا فى حضارتنا فقط ، وإلى عصرنا الحالى لا يكاد الواحد منا يسمع عن رجل عظيم الشأن فيذهب لقراءة سيرته إلا ويجد له فى أيام عمره سجن أو محنة تصقل من معدنه، وتمِيزُهُ بين الرجال ، حتى أن الرجل الذى تفاخر به أقوامنا الآن على مستوى السياسة بين سجنه وتوليه رئاسة وزراء تركيا أقل من خمس سنوات.

ومع كل هذه السير وتلك المسيرات فإننى لا أدرى كيف وصلت ثقافة "الأمن" إلى وضعها الحالى فى مجتمعاتنا على مستوى الفرد المؤثر وعلى مستوى الجماعات الفاعلة ، هل بالفعل يشعر هؤلاء الأشخاص أن انعدام الأمن هو أمر غير مستغرب؟ ، أو بالأحرى لماذا يوجد حرص على وجود هذا الأمن والتضحية ببعض المكاسب الواجبة والمفروضة عليهم فى الطريق؟ ، وهل هناك درجة من انعدام هذا الأمن "التضحية" يجب أن نصل إليها أولا حتى نُعطى ما نطلبه ؟ ، لماذا لا يكون الاعتقال مثلا فى زمننا هذا هو أمر متوقع فى حياة كل فرد مؤثر؟ ، علامة مضيئة على الطريق ، وأن يكون العكس هو المستغرب، صحيح أننا لا يجب أن نتعامل معها على أنها من حق الظالم نفسه أن يعتقلنا كما يحلو له ، لكن فى الوقت نفسه ليس من حقنا أن ندفع هذا الخوف بالركون إلى خطوات من شأنها أن تبطىء عجلات الهدف الذى نصبوا لتحقيقه.

إن الطريقة الثورية فى الاحتدام بنقاط الجهل والتخلف والفساد والخواء لتُعرف من حجم الخوف الذى يلاقيه كل فرد وكل جماعة على خطوط هذه النيران ، وإن كل ابتعاد – فى وضع أمتنا الحالى – عن هذا الخط لا أخال إلا أنه يبطىء من النصر الوشيك.

دعونى أقول أن تلك الخواطر تجول فى جنانى منذ عام ، وها أنا – بهذه الليلة – أتمم عاما كاملا بعد تجربة اعتقال قصيرة ، قد أكون خسرت فى هذه نهاية هذا العام – بسبب الملف الأمنى – عملى كمراسل وكإمام وخطيب حر ، لكننى لا أستطيع أن أنكر أننى أفضل حالا بكثير، أن أجزاء كاملة من طرق التفكير ودروب العمل لدى قد تم دفعها بشكل صحيح ، والفضل أن "ألف ميم نون" أصبح لديها عندى معنى مختلف ومذاق خاص بعد تجربة مثل هذه .

حتى قد يكون الأمر أوسع من ذلك ، والنظرة أشمل من الأمن على النفس ، فحتى الأمن الاقتصادى وعدم المخاطرة برؤوس الأموال، أو الأمن على الأشخاص القريبين منى ودوام الاطمئنان المتبادل بينى وبينهم، أو الأمن العاطفى وعدم خوض تجارب ما كانت محظورة لدى سابقا، أو حتى تأخر السكن النفسى ذاته، كل هذا قد اتسق وتناسق وانتظم فى عقد جديد بعد أن كان متناثرا فى حياتى ليشكل منظومة لا تعرف الأمن ولا الأمان فى هذه الحياة ، وترتقبه فى حيوات أخرى .


20‏/6‏/2010

صدمة 23


خطوُه يأخذ فى التسارع كلما اقترب من ذلك المبنى ، تتلوى قدماه وهو يلتفت برهة للبوابة التى دخل لتوه منها ويتمتم حامدا أن لم يسأله أحد عن هويته الجامعية ، يبدو أن استنتاجه كان صحيحا ، يبدو أنه بالفعل لم ينقطع تردده على هذا المكان بعد ، وجهه هنا ما زال مألوفا ، وجوههم أيضا .. هؤلاء الذين يقفون فى بوابة المبنى لم يتغير إلا واحدا أو اثنين ، تلتهم أقدامه الدرج بقوة ، يصعد دورا واثنين وثلاثة بنفس القوة ، يلهث عند آخر درجة ، يمرر عيناه على أبواب تلك الردهة ، لا بد أنه قد التحق بهذا القسم ، ينظر فى ساعته المكسور زجاجها ، عشر دقائق تبقت على الموعد ، يلمح مقعدا فى طرف المكان ، يلقى بجسده المرهق عليه ، يلتقط أنفاسه ، تدور عيناه فى المكان دورة كاملة قبل أن يغلقها تماما ، يضغط بأجفانه أكثر ، يحاول أن يهدأ ليراجع الساعات الغريبة التى مرت به منذ الصباح ، يجفف بمنديله قطرات العرق الخفيفة التى انتثرت على جانبى جبهته من أثر العدو ، يرتبك عندما يرى أثر الدماء التى على المنديل ، فيخفيه فورا فى جيبه ، تلمس أنامله الورقة التى بسببها هو الآن فى هذا المكان ، يرفعها أمام عينيه ن يحاول استنطاقها ، يتذكر جيدا أنها مقطوعة من مفكرته الأثيرة ، ذلك التاريخ المطبوع عليها وهذا الكلام المكتوب فيها لا يتذكر متى كتبه .. 10/6/2008 ، هذا هو التاريخ المطبوع ، و 10/6/2010 هذا هو التاريخ المزيل فى الورقة والمكتوب بنفس خط هذه البنود الخمسة ، لقد تأكد بالفعل أن يومه هو التاريخ المكتوب ، لقد التقط ورقة حالته المعلقة على طرف سرير المشفى مأرخة بـ 10/6/2010 ، الكثير من الحروف الإنجليزية غير المنسقة كانت منتشرة تستفل وتستعلى أسطر ورقة المشفى ، لم يسعفه فى الفهم إلا الكلمات التى استلقتها أذنه فى حالة نصف وعى ، كان أحدهم يهمس للآخر ، لعل صوته كان عاليا ولكنه لم يسمع إلا همسا ، كان يتحدث عن حادث .. عن احتمال فقد للذاكرة .. كان الآخر يبدد شكوكه .. كان يحدثه أن الصدمة كانت خفيفة .. أن الجروح طفيفة .. أن الفقد لن يكون إلا جزئيا .. أنه سيعود سريعا .. بمجرد أن يفيق ويرى بعضا من حياته المفتقدة فى الذاكرة .. لعل هذا هو الذى جلعه يفر فى غفلة من الممرضة التى ثقلت رأسها على باب العنبر ، ماذا لو بقى ، من المأكد أن أحدهم قلق عليه الآن ، لكنه لم يستطع ، الأحداث التى فى تلك الورقة ، تلك الورقة الوحيدة التى عثر عليها فى جيبه ، لا يمكن أن يتحمل تفويتها ويستسلم هناك راقدا على فراش المشفى ، بالتأكيد سيخسر ، يحاول أن يتذكر أكثر ، صور كلها مشوشة ومهتزة ، تحلق نفرِ يلبسون لأبيض ويتكممون بالأخضر فوق رأسه .. حركة عجلات السرير المتسارعة المتذبذبة فى أروقة رخامية ، أبواق سيارة الإسعاف المتتابعة ، آخر امتحانات الكلية .. لا لا لا ، محال هذا ، من المؤكد هناك خطأ ، ما .. يستدير برأسه ويضربها برفق مصطنع فى الحائط الرخامى خلفه ، يفتح عيناه فجأة ، منذ متى دخل الرخام كليتنا ، تبا إنه لا يتذكر أى شىء ، أى شىء عن عامين مضيا .

لا يبقى كثيرا على حالة ارتباكه هذه يصوب نظره شطر ذلك الموظف الذى ما زال يرقبه شذرا ، يهم إليه ويبادر بالتحية ، يسأله إذا ما كان اسمه فى كشف هذه اللجنة ، يرد مستنكرا : سيادتك لا تعلم ما هو قسمك ، يتردد برهة ك بلى أعلم ، قسم التاريخ لكنى لا أتذكر الرقم ، بعد تنهيدة تستفتح عينا الموظف قائمة اللجنة ، يعثر على الاسم فى أول صفحة ، تختلج قلبه فرحة عندما وقعت عيناه على اسمه أيضا ، يمرر الموظف اصبعه إلى أن يصل إلى الخانة التى فى آخر السطر ، ينظر إليه وقد مط شفته السفلى ، حضرتك محروم بالطبع من الامتحان اليوم ، لم تحضر أصلا طوال العام ، يتمتم بصوت خفيض : لم أحضر كيف لم أحضر ، ما المانع من حضورى ، أى عمل أخرنى عن هذا ، لا بد أن هناك ما كان يشغلنى ، لا بد أن عملا أهم فى انتظارى اليوم عوضا عنه .. أخذ يحدث نفسه زاهلا عن الموظف تسوقه قدماه إلى الدرج ثانية .

جلس لحظات يستعيد هدوءه على مقعد مقابل للكلية ، يمسك بالورقة ويقرأ أول سطر فيها قراءة أخيرة - قبل أن يمحوه تماما - : الذهاب إلى امتحان التمهيدى الماجستير – قسم التاريخ الإسلامى .

ينتقل برفق إلى السطر الذى يليه ، يمشى بتؤده هذه المرة ، يتذكر أو مرة صعد فيها هذا المبنى المقابل لكليته ، وذلك الدور العلوى الذى كانت تعلو مكاتبه التراب ، كيف كان أول اجتماع به مع أول فريق عمل ، خمسة كانوا وهو سادسهم ، لم يمض إلا أشهر حتى جاوزوا المئة ، يالله ترى كم وصلنا الآن ، وترى أى الفروع فتحت ، وترى من الآن يخلفنى فى منصبى ، وترى أى مفاجئة تلك التى من المفترض أن أخبئها لهم اليوم ، شىء من السرور أخذ ينمو بنفسه كلما اقترب من باب مكتبه ، سرور يعرف مذاقه من كل عمل تطوعى يقوم به ، ويشعر أنه بالفعل رصيد مباشر يضاف لأمته ، أخيرا تضغط يده على مقبض الباب يفتح برفق ويدفع بلين ، لا يدور المقبض ولا يستجيب لسانه ، يبدو أنه مغلق ، يتوجه للمكتب الذى بجواره ، شخص لا يتذكره يجلس هنا ، يبادر : أجديد هنا ، ينظر الشاب إليه وقد عقد حاجبيه ، يعنى من سنة تقريبا ، مين حضرتك ، يدور السؤال فى ذهنه بسرعة البرق ، إنه لا يعرفنى ! ، هنا من سنة ! ، لم آتى لمكتبى هنا منذ عام ، يالله ترى .. يقاطعة الشاب بنبرة أعلى : مين حضرتك ، يتلعثم ، لا أنا فقط كنت أسال عن مجموعة شباب .. نعم شباب يقومون بنشاط ما هنا .. نشاط اسمه "أبجد" تعرفهم .. سمعت عنهم ، يأخذ الشاب فى القهقهة : لقد رحلوا منذ زمن طويل . رحلوا كيف ؟ لمذا ؟ ، يتابع الشاب فى تلقائية مستنتجا : آآآآه .. أنت إذن من الأعضاء الذين نسوا أشياء لهم هنا ، ويأتون كل يوم والآخر كى يسألوا عنها ، ويصدعونا نحن ، حسن يا سيدى تعال ورائى ، وبحركة ميكانيكية أخذ العامل يعبث بعدد من المفاتيح أخرجها من جيبه ويتوجه بتلقائية إلى باب فى آخر الردهة ، ويفتحه بشىء من الدفع والتدافع من عشرات الأوراق التى بدت متكدسة خلفه ونادى نحوى : تفضل خذ ما تريده وارحل .

لا يكاد يصدق ما رأى ، لا يكاد يصدق أن الرجل الذى افتتح نموذجه عندما كان رئيسا لمركز فى الكلية هو هو الذى أغلقه عندما أصبح عميدا لها ، لا يصدق ما قاله ذلك العامل ، لا يصدق أن ما أنفقه فى أكثر من عامين راح أدراج الرياح ، تكدس أكوام فوق أكوام كالأطلال فى حجرة ضيقة ، لا يصدق أنه سيخرج الورقة من جيبه ، وسيمحو السطر الثانى ، أن زيارة لمكتبه فى نموذج مجمع اللغة العربية ، وتقديم هدية لمن يكملون مسيرته باتت فى عداد الأمنيات المستحيلة ، أن عليه التوجه للسطر الثالث ، بكل أمل ، وكل خوف ، بألف رجاء يجر أقدامه اليائسة إلى الحديقة المسماه فى جدوله المزعوم اليوم ، ينتظر لقاءه القادم .

الطريق من الجامعة إلى حديقته تلك المطلة على النيل ليس طويلا ، والموعد الذى كتبه قبل عامين هنا فى الورقة ليس قريبا ، آثر أن يقطع المسافة ماشيا على نسمات نيلية تلفح ذاكرته فتعيد لها ما سلبه حادثه ذاك ،لكن النسمات بدلا من أن تسترد شيئا من عقله أخذت ترسل أشياء من مآقيه التى تترقرق فى عينه منذا الصباح ، رباه لو كان لى أن أنسى أننى تركت الماجستير ، وأن مشروعى قد توقف رغما عنى ، فلا يجب أن يسقط من ذاكرتى أبدا موعدى القادم .. تتسابق الدمعات عندما يخطر بباله أن ماذا لو لم يكن ساقطا ، ماذا لو لم يكن موجودا من الأساس ، تكاد أنفاسه تقف على حافة السؤال قدماه تغوص فى عرض الممشى أيمن كوبرى الجامعة ، فى حركة جنونية اندفع بجسده كله كالرصاصة يطوى ما تبقى من الطريق عله يستبق قدرا ليس يسبقه .

دارت عيناه فى المكان حتى وقعت على طاولة غير مشغولة ، قصدها مضطرب الخطو ، جلس ضاما رجليه ويداه مقبوضتان عند ركبتيه وعيناه صوب المشهد النيلى الذى راح التماع ماءه - تحت وهج الشمس - ينعكس ويتلألأ فى عينيه فيزيد من ترقرق مائهما .

"ترى من تكون التى أنتظرها" ، حدق فى وجه النادل الذى أتى ليسأله عن طلبه وكاد ينطق ، لكنه ابتلع ريقه ، نظر على الطاولة ، أمسك بالقائمة ، ترى أى المشروبات تفضلها ، هل تحب الجوافة مثلى ، أم ترانا لا نطلب سوى الليمون ونوفر أى مليم لعصائر البيت الطازجة ، "أنتظر أحدهم ، سأطلب عندما يأتى" ، تململ النادل منه وأشاح عنه بوجه عابس .

أخذ يقلب ذاكرته فى صفحات وجوه فتيات من رأى ، من أحب ومن عرف ، من جاورها ، ومن زاملته ، من تأستذ عليها ، ومن تتلمذ لها ، من رنا إليها ، ومن إليه تزلفت ، أخذ يحاول تجميع صورة واحدة ، لا يريد سوى واحدة ، ترى أعيناها كما كان يحلو أن يلونها بخضرة الحقول وزرقة السماء والبحر ، أم بدكنة الغسق وحمرة الغروب ، أم بسواد الليل وغمقة العنبر ، تراها خمرية كمعتوق النبيذ أم شقراء كضى القمر ، تراها تقارعه بقلمها ، أم تباريه بصوتها ، تشعر به الآن ، تعرف ما حدث له فى الصباح ، ترى يعرفها لو أتت .. ضاق ذرعا بخيالاته ، وضاق بمقعده ، انتصب عوده النحيف وراح يضرب الأرض بخطوات غادية وراءحة ، يحدق فى وجوه الخلق ، يخيل إليه كل غادية أنها مقبلة عليه ، ترى هل تكون تلك .

أخذ اليأس يتملكه ، ينظر إلى ساعته المكسور زجاجها ، مرت ساعة ، ياه كيف نسى ذلك ، يكاد أذان العصر يُرفع ، لم يصل الظهر بعد ، انطلق إلى الزاوية التى يعرفها جيدا فى ركن من الحديقة ، لا يذكر أنه كان متوضأ ، أخذ يفضى من الماء على أطرافه فيكتشف بعض الجروح والكدمات التى أخذت تشى أن الحادث كان أشبه بالسقوط منه بالاصطدام ، ترك التفسيرات بعيدا ، ترك الماء أيضا على أطرافة يقطر ، وهم بالصلاة .

قرفص بعد الصلاة ووضع رأسه على تشبيكة أصابعه يحدق فى لا شىء ، لا يتذكر أنه أحس بلذه كهذه من قبل ، تملكه العجب ، إن خالق الحب لا يكلفك إلا أن تذكره فى نفسك حبيبا حتى يذكرك فى نفسه ، بمجرد أن يخطر على بالك .. نعم بمجرد أن يخطر على بالك ، تعلم أنه يذكرك ، يذكرنى ! ، وأى سعادة ينالها محبوب عندما يعلم أنه حبيبه الآن يفكر فيه ، فما بالك لو كان مخلوقا وهو خالق ، لكن لم تتفتق له هذه المعان التى لم يطالولها يوما ، تلك التى كان يفكر بها طوال تلك الساعات ولا يعلم أصلا أهى كائنة أم لم تكن بعد ، أيتوافق تخاطرهما ، أم يتنافر ، وما الذى عليه فعله كى ينهل بوصلها ، أن يبتغى سلما فى السماء أو نفقا فى الأرض ، لكن ما الذى عليه فعله كى ينهل بوصل الحبيب الأعظم ، أن يرفع يده ويهبط بها على صدره ، أن يصدح الله أكبر الله .. سمعها ترن فى الأفق تعلن صلاة العصر ، اندفع بجبهته تقبل الأرض وبروحه تحلق فى السماء ، وبلسانه يدعو الحبيب أن يهديه حبيبه فيه .

تسليمة عن اليمن وأخرى عن اليسار ، يرفع بعدها يده إلى جيب قميصه ، يخرج الورقة ، ويخط على السطر الثالث ، لم تأت له زوجة فى الموعد المحدد ، ضاق ذرعا بتلك اللعبة السمجة ، أخذ يمرر عينه فى بقية الجدول ، يذهب لشركته ويعقد اجتماعا تقييميا ، يصلى مع صديقه المغرب ، يذهب لبيته قبل العشاء ، لا يعرف من ذلك كله إلا صديقه الذى لا يخال أنه قد تغير ، ترى أين شركته تلك ، وهل هى موجودة أم ككل الأخريات كانت مجرد أمنية لم تر ضوء النهار بعد ، وترى بيته ذاك هو بيته فعلا ، أم بيت أسرته ، هل يجلس إلى الآن فى بيت والده ، لا يعقل هذا ، من يدلنى إذن من ؟ ، جمع أمره وانطلق من فوره إلى صديقه ، ما زالت معالم بيته الذى يتردد عليه لا يُخطؤها .

بيت صديقه لا يفصله عن بيت أهله سوى عدة شوارع ، ورغم ذلك أحب أن يذهب إليه أولا ، مؤكدٌ أن لديه تفسير أوضح لكل هذا . عند مدخل شارعهم رأى أخاه من بعيد ، استبشر وتوجه نحوه :

- كيف حالك حسان ، وكيف أخوك .
- بخير والحمد لله ، لكن يبدو أنه لن ينزل فى أجازة هذا الصيف .
امتقع وجهه وزاغت عيناه ، تابع بصوت تحشرج فى حلقه : ولم ذاك ؟
- يبدو أن المقام قد طاب له فى السعودية ، ضحك الفتى ثم ودعه ومضى بعيدا .

تسمر فى مكانه ، لكن دهشته لم تلبث طويلا ، مم يدهش ، ولم يدهش ، من أول يوم عرف فيه حاتم وهو لا يكف عن حديث السفر ، ودروب الهجرة ، من أول يوم عرفه فيه وهو يأتى كل يوم له ببلاد جديدة يقلب رأسها على عقبها ، يتعلم كل شىء عنها ، ثم يكتشف أخرى أكثر ميزة أو ميزتين فيتحول إليها ، يذكر أنه كان أكثر تعلقا بكندا ، نعم كانت حلمه الكبير ، لا يذكر أبدا أنه فكر بالسعودية من قبل ، ترى ما الذى جعله يحط رحاله هناك ، نعم كنت أعرف كل ذلك ، لكن من كنت أفكر فيه صديقا ساعتها عندما يسافر حاتم ، هل كنت أنوى البقاء بلا صديق ، ترى من اتخذت من بعده صديقا ، ترى ما سمته ، ترى ما خلاله .. وأخذ يعيد هزيانه فى أصبوحته النيلية بلا وعى .

عندما بلغ ناصية الشارع استقبلته الشمس بأشعتها القرمزية ، فبثت فى الأفق مشهدا جنائزيا مهيبا ، خطف قلبه عندما رنت عيناه إلى شرفة فى الشارع الذى يقابل بيته مباشرة ، بدت وكأنها تحمل له ذكرى أليمة لم يجف جرحها بعد ، كيف وهى شرفة تلك الفتاة التى هى الآن قد شب طوقها وما زالت أحلامى تراودنى أن أنتظرها عدد سنين فأظفر بها ، أخذ يرد ذلك الخاطر وهو يتمتم : أمسينا وأمسى الملك لله ها هو يدخل شارعه ، ويتمتم : اللهم بك أمسينا ، يرمق مسجد "فاطمة الزهراء" قد سمى باسمها ، ينقبض أيضا عندما ترتقى عينه إلى لوحته المنحوتة بخط الثلث المحبب له ، يمضى فى طريقه بلهفة يتسارع خطوة كمن يلاحقه عدو مباغت خلف أشجار غابة معتمة ، ويتمتم : أمسينا على فطرة الإسلام ، يسرع أكثر كلما اتقرب من البيت لم يتبق سوى بنايتين يسلم ساقه للرياح يتجاوزهما فى سرعة البرق ، تتسمر عند الدرج الذى همت بالتهامة .

- حمد لله على السلامة يا أحمد ، قالها وأخذه بين ذراعيه يحتضنه بقوة ، بل يعتصره فى عنف .
- الشيخ أنس !
- لا ، كان هذا منذ زمن ، أنا الآن ، أنس صديقك
- صديقى .
- اجلس ، وقل لى كيف سار يومك .

لم يحك شيئا ، حكى له أنس عن كل شىء ، حكى له عن اتصاله به ليلة أمس ، كان صوته عاليا ومضطربا كالممسوس يصرخ ويطلب منه أن يرافقه غدا فى ركوب الخيل " خشيت عليك بشدة ونصحتك ألا تذهب ، فى الفجر هاتفتك رد على أخوك وقال إنك تركت هاتفك ، وتركت المنزل فجأة ولم تعد من بعد الصلاة ، أدركت أنك بهذه الحالة مصاب لا محالة ، نزلت من فورى ولحقت بك عند المكان الذى نركب فيه الخيل دائما ، وجدتك محمولا على يدى أحدهم بعدما كبا بك الجواد من فرط اندفاعك به ، ذهبت معك للمشفى ولما قصصت للطبيب ما حدث ، أبلغنى هو الآخر بحالتك ، قدم إلى الورقة التى فى جيبك وقال أرجح أن فقد الذاكرة المحتمل ذلك سيبدأ من هذا التاريخ قبل سنتين من الآن ، ذكرت له أن الصدمة ستكون كبيرة عليك ، اقترحَ أن نتكرك تواجه ورقتك بندا بندا ، حتى لا تصعك الحقيقة كاملة ، اتصلتُ بأهلك لأطمأنهم ، وتغافل العاملون بالمشفى عنك ، حتى حدث ما كنا نتوقه ، وخرجت لتستقبل أحلامك وتراها بعينك ، لكن صدقنى أحلامك هذه رغم ذلك قد تحقق منها ..

لم يدعه يكمل أكثر من هذا ، أخرج ورقته وطلب منه أن يدله على المفكرة المنتزعة منها ، ناوله إياها ، قبض عليها بيديه المرتعشتين وخطا بقدميه الثقيلتين درج المنزل مودعا إياه : شكرا صديقى ، دخل البيت ، استقبلته الأحضان الحارة ، والأعين الدامعة ، أنسل من وسطهم ، أغلق باب حجرته خلفة ، تكوم جسده خلف الباب ومفكرته مضمومة إلى صدره ، فتحها برفق وأخذ يقلبها صفحة صفحة ، ويتذكر أيامه الضائعة يوما يوما ، يأسف لسفر صديقة ، يبرق لاجتماع قلبين يحبهما فى الله ، يرعد لفترة اعتقال مرت به ، يشهق لرحلة قصيرة إلى غزة ، يجزع لموت فاطمة ، يصل إلى صفحة الأمس ، يلتئم الماضى بالحاضر ، آخر مشهد مفقود ها هو يلتقطه ، ها هو يرى نفسه على ذلك الجواد الأبيض فى الصباح يعلو به ويهبط ، ينطلق به كالريح المرسلة ، ها هو يتذكر خلجات نفسه ويكاد يلمس وجهه المزعور رغم كل شىء ، كأنه كان يستعد للكبوة ، ها هو يشعر برأسه ترتطم بالأرض ، وتظلم الدنيا ..



يهب واقفا ، يستوى بجسده على المكتب يمسك بصفحة اليوم ، يمتشق القلم ويسطر ، ينتهى سريعا ، ويعلقها على الحائط ، يعاود القراءة بصوت هامس خفيض .

الأحد 10/6/2012

- أذهب لامتحان الماجستير .
- أتابع عمل "أبجد" .
- أقابل زوجتى فى الحديقة النيلية .
- أتوجه لمكتبى فى مؤسسة "الفراقد" للإنتاج الإعلامى .
- أحجز تذكرتين لقضاء عطلة الصيف مع حاتم فى كندا .

1‏/3‏/2010

إعادة الارتكاز


نظرة للفتى منذ خمسة أعوام تستشعر أن مرحلة ما قد دخل فيها لتوه ، تاريخ ما يشده نحوها بقوة ، يجعل نواقيس عقله تدق ، ومراجل قلبه تتضرم ، يوم ما يريد أن يجعله محورى فى حياته كما رآه فى حيوات من علا فى الأرض من قبله ، ساعة ما يخال أن عليه بلوغها بحقها ، يبدو أنه سيرفض قوله : "عندى عشرون" ، قبل أن يكون قد امتلك أسبابها ، حسِبَ تلك الطاقة جيدة فى حينها ، قد دفعته دفعا إلى السير والسرى ، مشدوها إلى ذلك العالم العشرينى .

بمجرد وصوله أخذت الأرض تضطرب من تحت قدميه ، يبدو أنه أسرف فى سعيه ، أو حمق فى أمانيه ، أحس بأنه كطفل وليد لفظته أمه لتوها فى ساحة حرب ، أخذت النار التى حمأت بأفكاره وأعماله – فى فترة السنتين ونصف التى انقضت – تصوغ له درعا سابغا – من الحب اختاره – كى يحتمى به من شظايا المعركة ، وجدها أيضا تستن له سيفا بيرقا تسله من الثورة التى أضحت ضربة لازب فى أرض لا يخلو منها شبر إلا من رجل محارب أو رجل مقبور .

لم يكن الغريب أن يتطلع فتى إلى عمر العشرين قبله بعامين ونيف ، ولا أن يحسبه الجنة الموعودة بعد سفر الفيافى حتى إذا وصلها دُفع إليه بفرس وبالكاد اتقى أول سهمين وجِّها إليه بدرع التقفه ، وعاجل أول ضارب بنصل سيف التقطه على عجل ، لكن الغريب الذى يريد أن يعرف له تفسيرا هل خرج بالفعل من هذه المعركة وأكمل الرحلة أم ما زال هناك يحارب فى أرض قد ضاقت به ، يقف عند مرحلة قد تخطاها الفرسان بكثير ، أو يبدوا أنه تخطاها كما فعلوا مرغم بقوة الزمن ، لكنه وإن سار مبتعدا فلا زال يرمى ببصره هناك ، يسير للأمام وينظر للخلف ، غير مصدق بأنه يوما من الأيام لم يرفع لوائه منتصرا على هذه الأرض ، نعم قد خرج منها والدماء وساما على جبهته ، نعم قد خرج منها بعد أن جندل أعدائه وأثخن فى غرمائه ، لكنه لم يستطع أبدا أن يرفع راية النصر ، يتكاثرون عليه وهو الفارس البطل ، فيرغمونه على أن يدفع عن نفسه أولا ، فرفع الراية كان محض انتحار .

اليوم وبعد أن تباعد ما بينه وبينها ، وبعد أن مضى عمر كالذى أفناه فى الوصول إليها ، ، وبعد ما أعشى بصره من طول النظر خلفه ، وبعد أن بح صوته من طول ما تصايح لها ، يجد نفسه اليوم قد لمع فى قفاه ضوء مرحلة أخرى ، وشعر بلسعة خفيفة من لهب معركة قادمة تستحثه كالتى قبل ، وتناهى إلى أذنه ضجة المعامع وصخب الفرسان ، رويدا رويدا أخذ يدير وجهه ، رويدا رويدا .. أخذت تودع عيناه والمآقى مختنقه مشهده العشرينى ، رويدا رويدا استدار كامل جسده ليبصر على البعد عمره المحورى الثانى .. الخامس والعشرين .

من يعرفنى – واقعيا أو افتراضيا – ليس فى حاجة لأن يسمع منى أكثر مما ذكرته كى يعرف ما قد تمخضت عنه الفترة الماضية وما قد تتفتق عنه المرحلة المقبلة ، ومن يتهمنى بالإلغاز وتقصُّدِ الغموض قد يعتب على ، وعتبه قد وجد له صدى ، فصناعة الكلام عندى لم تكن يوما – ولن تكون – من مواد خام ، فهى ليست من أحرف وكلمات ، حركات وسكنات ، ولكنها من لحم ودم ، من أنفاس وخطوات ، بدأت – فى قصتنا هذه – منذ أول حوار استطعت أن انفرد به مع أ.د/ محمد عبد الحليم (رئيس مركز الدراسات الإسلامية بلندن) قبل خمسة أعوام ، ونشر لى فى ملجة الكلية على غير رغبة منهم فى أن يوضع اسمى على صفحة من صفحات منابرهم التى أقض مضاجها كل يوم ، كان هذا الحدث وقتها علامة تحول فى أشكال إنجازى ، بنفس الطريقة استطعت أن أسمع صوتى من خلال مهرجانين فى الفصل الدراسى الذى يليه ، ومع أول أجازة صيف كان دخولى إلى عالم الصحافة فى أسخن نقاطها حيث كانت تشهد مصرفترة حراك غير مسبوق ، قوى غير تقليدية نزلت إلى الشارع ، انتخابات برلمانية ورئاسية ، تغطياتى اليومية لكل فعاليات القوى السياسية لخصت لى الكثير عن المشهد السياسى المصرى الذى كان أول تغير حقيقى لملامحه فى فترتنا تلك هو فوز محمد بديع بانخابات مرشد الإخوان ، واستقبال البرادعى فى مطار القاهرة ، أى انتهت مرحلة وولدت من رحمها أخرى .

لم يستطع عملى فى الصحافة أن يسلخنى من قلب معركة أنا مسئول عنها فى المقام الأول ، أن تحدث تغييرا إيجابيا داخل كلية تقليدية ذات حس أمنى متوتر كدار العلوم ليس من السهل مطلقا ، قد تطلق بعض المناوشات من تكوين شعبية ما بمجلات حائط ( المجهولة المصدر) أو مهرجانات شعرية وإنشادية أو كلمات المختلسة فى المدرجات ، أو حتى أسرة ذات شرعية جزئية ، لكن أن تحدث فرقا وأثرا لا يزول تستطيع أن تطلق عليه بلغة عامية " تعلم عليهم" كان لا بد من منهج مختلف ، لم أهتد إليه إلا بعد الخروج من الصندوق ، والمشاركة ببعض الأنشطة الخارجية وبالأخص فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية والذى كان على أثره - وبعد أقل من شهرين على اشتراكى فى نموذج منظمة المؤتمر الإسلامى - نموذج مجمع اللغة العربية "أبجد" الذى استمر لدورة ونصف قبل إغلاقة كإجراء طبيعى فى "كلية بوليسية" .

المعركة الأعلى صوتا فى كل هذا لم تكن بينى وبين نظام بوليسى أو حركات سياسية أو قوى كبرى ، كانت مجرد معركة استكمال لبنائى النفسى الذى ادعيت – وما زلت مصرا – أنه لو تحقق سيزيد من معدلات إنجازى إلى الضعف وسيقلل من خطوط تذبذبى إلى النصف فتكون القوة والاتجاه قد تضاعف حجمهما كما وكيفا ، كانت هذه الخطوة – وما زالت – هى الحب المزهر بالخطبة ، والمثمر – فى فترة لا أحسبها داخل تلك المرحلة – بالزاواج ، وعلى الاعتراف الآن – ولأول مرة – أن هذه الحرب لم تكن ذات خسائر محضة ، بل إننى لم أعرفنى أديبا ، ولا حتى منجزا إلا فى اللحظات التى أكون مدفوعا فيها إلى "محاولة" حب إحداهن وقد أقبلتُ ، أو "محاولة" الانتقام – لنفسى – من إحداهن وقد أدبرتْ ، ولكن فى كل الحالات لم – ولن – أشهر سيفى فى هذه المعركة إلا فى وجه صنم واحد يسمى .. المجتمع .

العجيب أن غنائم هذه المعركة كانت فى نظر الخصم "المجتمع" هى أهم من الفوز أو الخسارة ، ولا غرو فقد كانت غنائم "اقتصادية" استطعت من خلالها أن أكسر أكثر من حاجز ، أولها بداية العمل بشكل مستمر – وليس ثابت – مع أول سنوات الدراسة الجامعية ، وثانيها تجاوز "مكافئات الطلبة" إلى "رواتب الخريجين" وأنا أيضا فى المرحلة الجامعية من خلال الاعتماد على المهارات والدورات والنموذج الذى أعتز به فى هذا المضمار هو فترة عملى فى تعديل ووضع مناهج اللغة العربية لغير الناطقين بها (الفرقة الثالثة) ، أما ثالث هذه الحواجز هو الإبقاء على شكل الارتباط بالعمل بعد التخرج أيضا من حيث التحرر من فكرة العمل اليومى فى محوريه الثابتين (عدد الساعات/الراتب) إلى العمل بطريقة القفزات ، وذلك من خلال مبادرة إنتاج الأفلام الوثائقية وتسويقها ذاتيا عبر مجموعة من الأصدقاء مؤمنين بنفس طريقة العمل .
أزعم أن هناك دافعين لا ثالث لهما فى كل توجهاتى وهما متلازمين أيضا : الأمة .. الحبيبة ، برغم أن ملامح كل منهما قد تقترب أو تتباعد زمانا ومكانا حتى أشعر فى لحظات أنهما وهميتان ، وفى لحظات أخرى أنهما يتداخلان بنفسى تداخلا لا يكاد المراقب لى يظن إلا أننى أعمل من أجل نفسى وفقط ، لكن فضل الله ومنته أن ختم هذه المرحلة بذروة من ذرى الثورة ذات الشوكة ، ففى فترة الاعتقال القصيرة التى أنعم الله بها على ، لم أكن آنس فى زنزانتى الانفرادية سوى بالأمة ولم أكن أستوحش سوى الحبيبة .

إذن فما المشكلة فى أن أكمل فى خطى الذى اختطه لنفسى هذا ، وقد بدا من عرضى أنه مبشر ومنتج ويافع ، لم أريد الآن أن أعيد الارتكاز ، حول ماذا ؟ ولماذا ؟ ، هذه أسئلة أيضا يعرف الإجابة عنها تماما من يتابعنى متابعة دقيقة ، لكن من هو أبعد من ذلك لا يعلم أننى ما زلت أحسب كل هذه الإنجازات وأخصم كل هذه العثرات من مرحلة "العشرين" ، ما زلت حتى الآن أعتز ببطاقة هويتى التى توضح بجلاء أننى طالب فى دار العلوم ، ما زلت أتلعثم حتى ولا أذكر فى تعريفى أننى متخرج من كلية كذا بل ما زلت فيها ، ما زلت أطلق على سيرتى الذاتية "حصاد العشرين " ، وعلى إنتاجى الأدبى والعلمى "أوراق عشرينية" ، لزاما على الآن أن أودع كل هذا ، أن أبتسم للكاميرا ممسكا بالمذياع قائلا : عدنا .. عدنا وفقرتنا التالية هى الخمس سنوات المقبلة ، معايير جديدة ، إذا لم أنتبه لها ، لن يكون هناك خاسر غيرى ، ومع شخص لا تبدوا خساته فى أغلب الأحيان إلا مجرد إنجاز أقل ، فإننى لن أنجز شيئا .

إذن قد انتهت أخيرا .. ولن أستطيع البحث بعد اليوم عن الفتاة التى تكون أول من تدخل قلبى وأكون أول من يدخل قلبها ، لن أستطيع أن أعرض بعد اليوم بعض الأعمال التطوعية على أناس دون أن أردفه بالمقابل ، لن أدخل بعد اليوم المكان الذى أجد نفسى فيه أصغر الموجودين وأمهرهم أيضا ، لن أستطيع أن أنتظر الأتوبيس فى سعادة لأن ياقتى البيضاء ستعتاد على التاكسيات المكيفة .. لن أستمتع بعد اليوم باسمى مجردا من "أستاذ" دون أن اجتهد فى نصحهم بمناداتى به مجردا ، لن أسعد بعد اليوم بمنادتى به أيضا من قبل طفلة جميلة مجرد من "عمو" كما كان من قبل .. أهلا بكم فى عالمى الجديد .. عالم منتصف العشرينات ، إنه فى الحقيقة ليس محور ارتكاز لمرحلة مقبلة بين الـ 22.5 والـ 27.5 ، بل أخاله أيضا محور ارتكاز للعمر الخمسينى .


سيرتى المرئية

28‏/2‏/2010

اسمها منى

أسطرها فى ذكرى لقائها الأول الذى ما زلت أدعو المنان ألا يكون الأخيرا
...
ننفخ فى كفينا تدفئا ونحن واقفين على الرصيف بعد منتصف الليل نرقب عشرات الجموع التى ما زالت تتدفق على المدينة الساحلية الصغيرة ، يرن هاتفه فيرد عليه متلهفا كمن ينتظر خبر مولود سعيد إلى الدنيا ، ثوان وإذا به يتهلل ويكبر ويراجع محدثه أهذا صحيح هل تحقق الأمر بالفعل ؟ ، الله يعزكم .. الله يعزكم .. ويعزها ، أغلق هاتفه وتلقفت يداه ذراعاى يهزهما بحرارة : لقد فتحوا طريقا بريا ، وما هى إلا ساعة حتى ترى اللوحات المعدنية الخضراء على سياراتنا تتجول فى المدينة ، أستطيع أن أرسل من يحضرهم فالوضع أكثر أمنا الآن ، وفى لحظات أخذ يهاتف بعض الأشخاص ويتفق معهم على سرعة المجىء ، وتوخى الحذر ، والمكان الذى سينتظرهم فيه .

ساعة أخرى انتظرناها على الرصيف نرقب عشرات المركبات التى بدأت تتدفق على المدينة الساحلية الصغيرة ، أخذ يحكى لى كيف أن صغيرته ستطير فرحا بمدينتنا هذه ، فهى لم تر قبل ذلك أى مدن ، هى لم تخرج من سجنها الكبير منذ أتت إلى الدنيا ، قد حفظت كل الأماكن التى يمكن أن ترتادها وهى لم تتجاوز ست أعوام بعد ، يترقرق الدمع فى عينيه وهو يخبرنى كم كان يتمنى أن يأتى هذا اليوم الذى يستطيع أن يخرج بها وأمها وأخواتها فى طرقات لم يطئوها ، ومتنزهات لم يشموا روائح عطرها قبلا ، وشواطىء لم يتحسسوا ناعم رمالها بعد ، أغفيت قليلا وهو يحدثنى فقد كنت جد متعبا ، أشفق على وسمح لى بأن أسبقه للبيت وينتظر هو حتى يأتون .

ساعات من الليل وانفتحت عيناى على أشعة النهار وأصوات الريح تتلاعب بأمواج البحر وأوراق النخيل ، وإذا بصوتها يدوى فى أرجاء البيت ، يا الله لقد جاءت ، خرجت من غرفتى لأجدها أمامى غير منتبهة لى ، ترتدى معطفا ثقيلا يكاد يصل لأطراف أصابعها الصغيرة ، وتمسك بكيس من الحلوى التى ظهرت آثارها على فمها ولونت بها وجنتيها البدريتين ، لمحتنى بعيناها السوداوين فاخفت ابتسامة خجولة خلف أسنانها الصغيرة البيضاء وانزوت جانبا تلوذ بأخيها الصغير وتحنى رأسها للأرض ، لمست أناملى ذقنها رافعة وجهها الحيى إلى عينى : إذن أنت مُنى ، أجابت بتلقائية تريد أن تفلت بها منى : وهاد خوى إبراهيم ، وإختى ولاء الصغيرة هونيك (تشير إلى الغرفة المغلقة فى آخر الردهة) مع إمى ، وأخذت تجرى نحو الغرفة وتنادى : إمى إمى إمى .

ساعات من النهار وكنا نقف ثانية أمام البيت ،نحزم الحقائب ونتأكد من أن كل شىء على ما يرام ، يشكرنى على شىء حقه أن يوبخنى عليه ، ينظر لعيناى المنكسرتين فيربت على كتفى مخففا عنى :
- على الأقل اختلسنا ساعة من نهار .
- يمكنكم أن تبيتوا الليلة وتنطلقوا من الغد .
- لا يا أحمد قد طوقوا السوق ، وحمدت الله أن منى لم تراهم يفعلون ذلك ، كانت ستفلت ذراعى وترميهم بالحجر ، لم أخبرها بعد أن هناك يهودا خارج بلادنا ، وعلى كل حال لقد استمتعت اليوم ، شربت عصير القصب واشترت حليا لها ، أيضا زوجتى لم تشترى لها ولا للبيت شيئا منذ ثمانية أشهر ، ولا ندرى إن بقينا لليل فقد نفقد كل ما جمعناه فى الصباح .

نزلت وهى تنادى بأعلى صوتها وتجرى على : عمو أحمد عمو أحمد ، ما راح تاجى معنا .

لأجل خاطرك سآتى ، ولكن سأبيت عندكم ليلة واحدة فقط ، وبعدها تتركينى اتفقنا ، أخذت تهلل وتجرى حولى معلنة للجميع أنى سآتى معهم .

انتصب الطريق بنا فى طول غير معهود ، شعرت برأسى ثقيلة ترتطم بزجاج السيارة كل حين ، هؤلاء العشرات العائدين على جانبى الطريق قابلتهم بغير هذا الوجه فى الصباح ،أتذكر فرحة منى بالعريش ، بأسواقها التى لا تختلف عن أسواق غزة كثيرا فى الشكل لكنها ممتلأة وزاخرة ، بحدائقها الصغيرة التى لا تختلف عما رأته إلا بقدر المساحات السوداء التى تغطى بعض شجيراتها هناك ، شواطئها لا يفصل امتدادهما إلا تلك الزوارق المرابطة فى المياه من بعيد تعلن أن هنا بداية الشاطىء الغزاوى ، بعد ساعة توقفت السيارة على بعد بضعة مئات من الأمتار من مدينتهم ، نزل السائق يسئل عن سر توقف الطريق ، مئات من المركبات تغص بهم الطرقات من حولنا وكلهم ركود ، عاد السائق بعد هنيهة ، اتكأ بذراعيه على باب السيارة ، وأدخل رأسه عبر النافذة النصف مفتوحة موجها الحديث إلينا : لقد أغلق المعبر من ساعة ، إما أن تبيتون هنا للصباح وإما أن تسيرون من هنا – مشيرا إلى طريق ترابى يسلكه راجلون - على الأقدام إلى أن تصلوا .

نزلنا مضطرين ، أن تحاصر فى بيتك خير من أن تحصر فى بيت جارك ، هكذا قالوا ، وهكذا دفعنا للرجل مئة من الجنيهات فى مشوار لم يكن يحلم بأن يحصّل منه سوى عشرة جنيهات ، كما لم يكن يحلم أى سيناوى بأن يغتنى فى هذه الفترة القصيرة ، وأن يبيع بأضعاف أثمان ما كان يبعيه ، وأن يكون حصار أناس فى أرض كتب الله أن تجاورهم ، هو رخاؤهم وغناهم فى غفلة من الزمن ، بل فى وهدة من الأيام تكاد تذهب بالدماء التى نزفت على هذه الأرض المطهرة عبر الأزمان ، تركت أفكارى المصرية ترحل مع السائق و بدأنا فى المسير ، ها قد أذنت الشمس على المغيب ، وها قد بدأت أشعة غروبها تبث ألوانا من البؤس والحسرة على عشرات بل مئات من الوجوه السائرة من حولنا نحو مصير محتوم ، تلون وجوه الأطفل والنساء والكهول بألوان عشرات من شجيرات الزيتون التى نخترق أراضيها وصولا للسور ، كالمسروق منهم فرحة بالعيد ، فى مشهد طالما بكيت أمامه فى "التغريبة الفلسطينية" وفى "باب الشمس" ، فى مشهد لا يظهر منه إلا الأبيض والأسود فى عشرات من شرائط توثيق النكبة أراه هنا كامل الألوان ، يبعث فى النفس ما يبعث ، يحملنى على أن أعتصر يد منى من فرط الحرص وأنظر إليها كل فينة : منى تعبت أحملك قليلا ، لا أنا كبيرة مو متل إبراهيم وولاء ، أنظر إلى أبيها يحمل الطفل وإلى أمها تحمل حملين حمل فى رحمها عمره ثلاثة شهور وحمل على ذراعيها عمرها زهاء سنتين ، أهز رأسى موافقا وأكمل المسير ، ومع تصاعد الغبار- من المسير- الذى بدأ يتحالف مع خيوط الليل السوداء فى سد الآفاق من حولنا وجدنا أنفسنا أمام السور وعشرات من السلالم المنصوبة على جانبيه ليتمكن الناس من العبور بعد أن أغلقت المنافذ التى فتحت عبر اليومين الماضيين ، وما إن اقتربنا أكثر حتى وجدت هذه الأصوات المألوفة لدى تنادى : يالا السلم ب5 جنيه ، وابتلعت حسرة طويلة ، وانطوت نفسى على جمرات كدت أقذفها فى وجوههم المنفرة وأبواقهم المنكرة ، فلا يفصل بين السور – المهدم أصلا – والأرض إلا أقل من مترين ولولا صغيرتى لكنت صفعتهم ومررت .

......

"تكبير .. الله أكبر .. تكبير .. الله أكبر " " منصورة ما منصورة يا حماس منصورة " " أبا العبد .. احنا معاك .. أبا العبد " .. فتحت عيناى بصعوبة على هذه الأصوات ورحت أتلفت حولى ، فلم أجدها ، الأصوات تأتى من النافذة ، تتضح شيئا فشيئا إنها ليست إلا أصوات لأطفال ، لكنها تشبه مظاهرة صغيرة ، رحت على النافذة أفتحها سريعا فإذا بالضوء يعشى ناظرى قبل أن أتقيه بذراعى وأنظر بروية إلى حديقة المنزل لأجدهم يتوسطونها بأرجوحتهم المتواضعة ، وكقائد لكتيبة بذراعها تطيح منى بالأطفال على الأرجوحة ، وتزعق بصوتها : تكبير .. فيردون بصوت يهز المكان : الله أكبر ، أخذتُ أنفاسى بعدما اطمأننت أن الحرب لم تقم بعد ، وقبل أن أبتعد مرة أخرى عن النافذة لمحتنى فتركت الأطفال وجرت نحو سلم المنزل تنادى : عمو أحمد صحى .

دقائق ووجدتها تدخل على بصينية كبيرة ويحاول أبوها عبثا أن يساعدها وهى تأبى وتسرع بها حتى كادت أن تسقط الأطباق كلها على لولا أننى تداركتها متبسما : شطور يا منونة انت ياللى جهزتى الفطور لحالك .
- آه ، بس البطاطس لأ .
- أخذت تضحك هى وأبوها وأنا لا أعرف مغزى الطرفة .
أخذت تبدى دهشات مصطنعة وتقول : عمو أحمد انت تحب الطاطس ؟
- فأومىء بالإجياب وقبل أن أبدأ فى تلقينها درسا تربويا عن حب كل المأكولات لأنها رزق من الله ، تأخذ هى فى الضحك وتقول : عنجد تحب البطاطس الصفرا ، يعنى انت فتحاوى ، بابا عمو أحمد فتحاوى ، متل دحلان وأبو سميح
- أخذتنى ضحكة شديدة من فرط المفاجئة ، لكننى اصطنعت بعدها الجهل : ليش منى الفتجاوى مو منيح ؟
- زمجرت الفتاة وقطبت عن جبينها بشدة : لا مو منيح ، كيف يعنى منيح وهو ما بيحارب اليهود ، وبيطخ فى حماس ، ثم انقضت بيدها على حفنة من تلك الصوابع الصفراء ودستها فى فيها الصغير وهى تضحك .

أخذنى الإعجاب بذلك المجتمع الذى يصل أطفاله إلى هذه الدرجة من الوعى السياسى فى معركته الداخلية فضلا عن الخارجية منها ولكن رأسى لم تكن فى سعة من التفكير والتحليل الكثير وقتها ، فمنى تنظر إلى رد فعلى الواجم هذا ولا تفهم ما الخطأ فى حديثها ، حاولت أن أدير الموضوع : منى انت ما حكيتى لى إنك راح تعرفينى على عمو ، فهرعت إلى درج المكتب فى الغرفة وأخرجت صورة كبيرة احتضنتها بقوة وأتت بها إلى :

- شوف هذا عمى الشهيد إبراهيم ، أنا بحبو كتير ، ولما نستشهد متله راح نروح كلنا الجنة ونعيش من بعض ، مو هيك بابا
- توقفت الكلمات فى حلقى ولكنها أكملت
- شايف هاد الكلاشين تبعه ( وأخذت تهز رأسها وتقول بلهجة عجب ) عمو أحمد أنا بعرف أسلخ نار ، رحت مع بابا عالجبل وسلخت نار ، انت تعرف تسلخ نار عمو أحمد .
- غاصت الكلمات فى جوفى ، وتذكرت فورا ذلك الصوت الذى هز أركان المعسكر منذ وقت مضى "دفعة 87 تأجيـــــل" ومشهد مئات الشباب وهم يسجدون على الأرض فور سماعهم الخبر ، مشهد تلك الدولة التى أفلحت فى أن تنفر أجيالا بأكملها من السلاح فرارها من الأسد !
أشفق علىَّ أبوها وجذبها من بين ذراعى : منى ما راح تفرجى عمو على أساورك .
- فمدت إليها ذراعها الأيمن الممتلىء بحلقات بلاستيكية ذهبية وملونة وقالت فى دلال : ماما جابتها إلى من العريش ، حلوة عمو؟
- أمسكت بأناملها الممتدة وطبعت قبلة حانية على يدها الرقيقة مداعبا : انت أحلى يا منونة .


الشمس ساطعة والسماء تمطر بغزارة ، مشهد ودعتنى به سماء تلك المدينة المطهرة ، لا أدرى كيف شعرت ساعة الوداع أننى ما كنت هناك إلا بخلدى ، ما سافر معى جسدى كل هذه المسافات ، تركته هناك بأرضه ، أستلمته الآن على الحدود ، ألقيت به فى أول سيارة مسرعة ودعته من بعيد بقلب تركته عند مالكيه ، أخذت أغفو وتميل رأسى على زجاج السيارة المضبب ، أخذت أتخفف منه فى أحلام بعيدة ، أصوات الأطفال ، مذاق الزيتون ، زمجرة النيران ، دفىء البيوت ، ضربات مساند "القعدة العربى" التى تنهال فوق رأسى منها ومن أخيها، لوحات يتداخل فيها جسدى بجسديهما ، ألوان تتمازج فيها نبراتى بضحكاتها ، أمواج من البحر تتلاعب بخصيلات من شعرها ، ذرات من الرمل تتراسم بخطوط من أناملها ، أخذت أحلم بكل هذا طويلا طويلا ، ليالى وأياما ، لا أود عندما يراودنى أن أفيق ، ما بال موقظنى اليوم يصرخ فى أن أفق أفق ، فتحت عيناى قليلا ، ألقى على الخبر ، انقلبت من على الفراش وطاح جسدى فى الغرفة حتى استويت إلى جهازى وأخذت أقلب فى الشبكة وأكتب بحروف مرتجفة على محرك البحث فى الأخبار "نزار ريان" وما أن ظهرت النتائج حتى اختفى كل شىء من أمامى ، صحت صيحة عويل مدوية ، سقطت على ظهرى ، توقفت أنفاسى للحظة ، انعدلت إلى التلفاز ، وما أن رأيت الحلم محطما أشلاء حتى على صياحى وفر الدمع فى كل عروقى كالمذبوح ، حفرة عميقة حيث كان البيت العامر ، نيران ملتهبة حيث كانت الحديقة الغناء ، استشهد الشيخ ومعظم عائلته ، شهقت شهقة تنميت أن تذهب بروحى ، سقطت مرتجفا كالمشلول ، أجأر ببكاء لم تشهدة عينى من قبل ، فى محاولة يائسة ككل يوم – منذ بداية الحرب – أتصل بوالدها ، فى لقطة فريدة من الزمن أسمع صوته من بين الدمار ، مختنق بالدمع ، ملتفع بالصمود : أبى يا أحمد واتناش من عيلتى ذهبوا ، أمى يا أحمد ، إخوتى يا أحمد ، أخواتى يا أحمد ، أولادهم يا أحمد ، بناتهم ، خالاتى يا أحمد ، وما أحمد كى ينطق فى مثل هذا الموقف إلا ذهولا يردد بضعف : صبرا آل نزار إن موعدكم الجنة .. صبرا آل نزار إن موعدكم الجنة .

غابت البسمة عن عينى منى فى أحلام ما بعد الحرب ، وما الأحلام إلا سذاجات بنى آدم التى لا يسطيعها إلا بإغلاق أجفانه ، نعم لن أقوى على فتحها أمام عينها وقد ازدادت صمودا على ما كانت ، كيف ستكون إذن ، كيف بها تعرفنى إلى أهلها جميعا فى الصور ، ترصصها إلى جوار عمها إبراهيم ، جدها نزار ، زوجاته ، أعمامها ، عماتها ، لكنها تسرع إلى الغرفة المجاورة – كمن نسيت شخصا تريد أن أتعرف عليه – وتحمل بقوة على ذراعيها أخيها الذى مر على مدينتنا وهو فى رحم أمه ، تحمل نزار الصغير ، تحمل النبتة التى خرجت وتخرج بكل قطرة دم على هذه الأرض المطهرة ، أراها تقترب به منى ، إنها تكاد تلمس ذراعى ، لا إنها تغوض بأناملها فيه بقوة ، أكاد أشعر بطاقة تعترى جسدى كله ، أغمض عيناى أكثر ، تهز فى ذراعى أكثر وبقوة ، تنادى بصوت خفيض أنظر إلى ، افتح عينيك ، أبى أبى أبى : أستيقظ مذهولا من الكلمة ، تنظر عيناى فى سقف الغرفة المظلمة ، أتطلع إلى مصدر الصوت بجوارى ، أنزعج متسائلا : أروى .. ماذا بك يا صغيرتى !

تجيب الصغيرة التى بدأت تفرك فى عينيها اللامعتين برغم خفوت الأضواء : أريد أن أنام بجواركما .

أطبق بإصبعى على فيها : لا تسمعك أمك .

تنظر إلى بنظرة عتاب أضعف أمامها ، أسحب ذراعى من تحت الحالمة بجوارى كى ألتقف به صغيرتى مبتسما فى خبث تندرى ، وهى تكتم الضحكات بكل ما استطاعت ، حتى إذا استقرت بيننا همست : أما الآن فالحكاية أولا .

أحك رأسى مصطنعا التفكير : طيب الحكاية أولا .. كان فيه بنت اسمها .. اسمها .. اسمها !

تتسع عيناها كمن عرفت الإجابة وتلهفت إلى سماع القصة التى أرددها كثيرا ولا تمل منها وتقول بصوت واحد تتبعها ضحكات عالية : اسمها منى .