10‏/3‏/2012

فلول أمن الدولة العربى !

३/8/2011

مرهقا أنتظر ختما أخيرا على جوازى من موظف بدأ يبدى بعض علامات العجب عندما ضرب حروف اسمى على جهازه .. أبادره : هل من مشكلة ؟

- لا أبدا المشكلة من عندى على الجهاز .

يتريث قليلا ثم يختم بالفعل على الجواز ختما للدخول وتحته ختما للخروج فى آن .. ينظر مرة أخرى قبل أن يضغط على زر الإدخال فى حاسبوه ثم يتوقف فى اللحظة الأخيرة .. ينادى على زميل له فى العمل .. يتطلع فى الشاشة المحجوبة عنى ويبدى بعض علامات الدهشة هو الآخر .

يتبادلان بعض النظرات من باب "لا مشكلة" ، فيرد الآخر بنظره من باب "على مسئوليتك" فيكر الآخر بنظرة ختامية "لن أتحملها" .. وحينها يتوجه زميله بجوازى إلى مكتب مغطى زجاجه بأوراق داكنه فى الجهة المقابلة ويبتسم الأول فى وجهى ، عذرا سنتظر لدقائق .

"دقائق الانتظار املأها بالاستغفار" أطالع الملصق المستطيل المشهور الموضوع على زجاج الشباك الزجاجى الذى يحيل بينى وبين الموظف الذى أخذ يتقى نظراتى ، يرتد بصرى فجأة لأتأمل ملصقا بجواره مشابها طبعت عليه جملتان حسبتهما حديثا أو آية قرآنية كالعادة ، هى بين علامتى تنصيص كالعادة ، لكن يبدو أنها مقولة لأحدهم :

" انتهى عهد التخريب .. وإن عدتم عدنا ، وستكون عودتنا أقوى " .. وتحتها كتب اسم القائل : حمد آل الخليفة .. نظرت إلى الاسم وبدأت أطابقه بعشرات الملصقات الأكبر والأصغر التى ما زالت تصافح عينى منذ وصولى للمطار وعليها عبارات شبه موحده "كلنا فداك خليفة" "حمد كلنا فداك" وصورا لأخينا فى كل الأعمار ، وأحيانا يضعون معه صور أخيه فى الرضاعة العاهل السعودى فأزداد اتشاحا عن المنظر .. زورت فى نفسى الحمد لله الذى عافانا ..

دقائق وبرز لى من المكتب الذى أمامنا شاب ثلاثينى يلبس "الدشداشة" والعقال ويبتسم فى وجهى البتسامة عرفتها من النظرة الأولى ، وبدأ يسأل أسئلته المتوقعة :

حمد أليس كذلك ؟

- نعم .

- من وين جاى يا أحمد ؟

- (ما هو مكتوب عندك يا متخلف) من كوالالمبور سيدى .

- أحمد شنو بشتغل ؟

- (وانت مال أهلك) أعمل فى مجال الأفلام الوثائقية يا فندم .

- أخذ يتأمل فى الإجابة كمن فهم شيئا ثم ختم بنفس الابتسامة الصفراء ودخل المكتب ثانية .

كان صديقى الغزاوى وليد قد أنهى إجراءاته وينتظرنى ، أقتربت منه أسر إليه : يبدو أن هذه المرة أنا من سيعطلك لا أنت ، سنكون متساويان الآن مرة أنت ومرة أنا .

- ضحك وأردف : ما الأمر

- لا يمكننى أن أخطأ هؤلاء ، هذا رجل من أمن الدولة ، أو أيا يكن اسم هذا الجهاز اللعين هنا .

- أويعقل ، وكيف تصلهم معلومات عنك .. هل أوقفت فى مطار القاهرة وأنت قادم ؟

- بالطبع لا ، ولم أتوقع الأمر هنا مطلقا ، ولكن يدبوا أنهم لم يسمعوا بالثورة بعد ، وإنا لمسمعوهم يوما .

خرج الرجل السمج من المكتب مرة ثانية أوصل جوازى إلى الشباك وطلب منى استلامه من هناك ، وقفت أمام الموظف .. أخرج قلما وأخذ يشطب على الختمين ويكتب على كل منهما بحروف عربية ناصعة "ملغى" .. "ملغى" .. ويكاد القلم يستحى عبره من ختمين مجاورين مكتوب عليهما بحروف لاتينية "مرحبا" "مع السلامة" ، لم أستغرق سوى ثوان أمام موظفة ماليزية محجبة حتى حصلت عليهما .. يتقى نظراتى مرة أخرى ويسلمنى الجواز ، عفوا اذهب مرة أخرى للمكتب السابق وسخبرونك بالوضع الجديد

نطقت عنه فى صمت : عفوا أنت ممنوع من دخول دولة البحرين حتى لو كانت الزيارة لا تتعدى عشر ساعات .. عفوا دولتنا وكياننا أضعف من أن يتحمل وجودك الصورى على أراضيه .. عفوا إننا ملتزمون بسنن الله فى الأرض "أخرجوا آل لوط من قرتكم إنهم أناس يتطهرون"

استعرت ابتسامة صاحبنا السمج ورددت : فلا عبرت بى ساعة لا تعزنى ॥ ولا صحبتى مهجة تقبل الظلما ॥والشرف لى سيدى ألا أطأ بلادكم المحتلة وأنا الحر الثائر أبدا ..

توجهت لموظف الشركة مرة أخرى ، اعتذر لى بحرارة ، وسلمنى صكا بوجبتى غذاء وإفطار فى هذا "الترانزيت" الذى يستغرف عشر ساعات قبل وصول طائرتنا الأخرى إلى المطار ، سلمته الأوراق الخاصة بالمبيت لليلة واحدة فى أحد فنادق المنامة وأنا بنفس الابتسامة المستعارة .

توجهت لقاعة الوصول أتدبر أمرى ، اتصلت بأهلى أطمأنهم على كما وعدتهم ، تبسمت نبرة أبى عندما أخبرته بما حدث وقال : تحيا الوحدة العربية .

صدقت يا أبى .. تحيا الوحدة العربية ، الوحدة العربية التى بنت أنظمتها الفاسدة بلبات مختلفة لكنها ربطتها برباط واحد للدرجة التى عندما أستجوب فيها بضعة أيام فى القاهرة على جريمة دخولى إلى غزة خمسة أيام ، دون أية محاكمة أو أية عقوبة ، تسمع بالنبأ دولة خليجية ، فتضعه على أجهزة دولتها الرسمية ، وإن سمعت به الخليج فأولى بالسماع السعودية وسوريا والجزائر والأردن ، إنها الوحدة العربية .

إنكم تخدموننا بهذا الرباط الوثيق ، ونعم إن تخوفكم فى محله ، فإن بلدا تقع لهى نذير بسقوط الكل ، الكل لا محالة ، وأنتم أولى بهذا يا أكشاك الخليج ، أنتم مجرد أكشاك على الخليج العربى ، ولن ينفعكم درعكم ولا مجلسكم إذا دار دوركم ، ووالله إنى لأؤيد الثورة حتى لو قام بها شيعة ، حتى لو قام بها الفلبينيين فى أرضكم ، وإن دولة كافرة عادلة ، هى أقوم – كما قال ابن تيمية – من دولة مسلمة ظالمة ، فإن الأولى تضمن حرية الدعوة للإسلام فيرتجى من أصلابهم خيرا ، والأخيرة تفتن المسلمين فى دينهم ، وتصد الكافرين عن الإسلام بظلمها .

صبرا أيتها الممالك وصبرا يا بلاد الحجاز ، فأنت من الآن بلاد الحجاز لا ما تسمونه "السعودية" أى اسم هذا يعل فى الأرض ويتجبر حتى يسمى أرضا وشعبا باسمه ، فإن أشرف البشر لم تقم له دولة "محمدية" ولم يتجنس قوم باسمه الكريم فكيف أنتم ، ووالله لقد رأيت فتوة بلاد الحجاز القادمة فى فتية وفتيات أربأ بنفسى أن أدعوهم سعوديين وسعوديات ، هم حجازيون سيضربون اللحن الأخير فى معزوفة ثوراتنا .. والله الوكيل .

نزلت إلى المسجد تضطرم فى رأسى هذه الأفكار ، أحمد الله أن الموقف بعث أحاسيسى الثورية من جديد ، ما زال الطريق الثورى طويلا ، بخ بخ يا ثوار ، صليت المغرب والعشاء ، يالله إنها أول ليلة من رمضان .. نظرت إلى الوجوه العربية والمسلمة من حولى ، وجوه ماليزية وأفغانية وهندية وخليجية وعراقية وشامية ، دعوت الله أن ينظر لنا نظرة فيرحمنا ويزيل بنا حكاما أنجاسا مرتكسين .

أفترش ثلاث كراسى متجاورة وأتوسد حقيبة كتفى ، وأتقلب من برودة المكيف وأحاول أن أنام سويعات تدفع عن بدنى هجوم دور البرد الذى بدأ يفترسه حتى طلعت الشمس ولم أفق إلا على النداء : يعلن طيران الخليج عن قيام رحلته رقم 71 إلى القاهرة ، على جميع الركاب التوجه إلى بوابة 32 .

قمت وصليت ركتى الضحى واتجهت نحو البوابة أجد وليدا فى انتظارى يشتملنى بنظرات يحاول بها التخفيف عن وطء ليلتى .. بادرته : لم يكن الأمر سيئا ، على الأقل ليس بالسوء الذى كنت تواجهونه على معابرنا قبل الثورة .

- ضحك ضحكة خفيفة : وأنت الصادق ، وبعد الثورة أيضا .

- نظرت فى دهشة ، أستنطقه .

- ألا تعلم أن اثنين من غزة كانا معى وتم رفض عبورهما على الأراضى المصرية ، ومن ثم سفرهما إلى ماليزيا لأن اسمهما على الكشوفات الأمنية .

تيبس الدم فى عروقى ، بهت للحظات ، انطلقت الكلمات كسيفة أسيرة فى فمى : أجل صاحبى ، تهمتنا واحدة "غزة" تهمتكم أنكم من غزة فلا تطيقكم مصر ساعات عابرة ، وتهمتى أننى ذهبت إلى غزة فلا تطيقنى البحرين ساعات عابرة ، وما غزة إلا خروجا عن النظام العربى ، وما غزة إلا دولة واحدة وحيدة بلا جهاز أمن للدولة ، لا والله إنه جهاز رعب الدولة ، رعب كل دويلة من هؤلاء من أمثالنا ، من ثورتنا التى لن تبقى ولن تذر فصبرا .

ثلاث ساعات وكنا فى مطار القاهرة ، ملأت الاستمارة المصرية للعبور ، وملأ وليد استمارة عفوا "أجنبية" مررت فى ثوان وانتظرته من خلف فاصل حديدى ، نظر الضابط فى جوازه وأشار إليه بالانتظار .

انتظر قليلا ثم خرج رجل يبسم ابتسامة سمجة من مكتب فى الجهة المقابلة مغطى زجاجه بأوراق داكنة ، سلم عليه ورأيت شفتاه من بعيد تنطق بلسان عربى مبين من أين أتيت يا وليد .. ماذا تعمل ؟ لكنها لم تكن أسئلة كافية ، ولم يكن لسان وليد العربى أيضا لسانا شافيا ، اصطحبه معة إلى دهليز يطل على المكتب واختفيا .

انتهت إجراءاتى ، تسلمت حقائبى ، لم يظهر وليد ، ولا الرجل السمج الذى أخذ بيده ، سألت آخرين على باب الردهة ، أبحث عن صديق فلسطينى ، نظروا لى بريبة أشاروا لى بالدخول دخلت فى الردهة الطويلة ، وفجأة أغمضت عينيى وأخذت أتذكر ردهة مشابهة فى مبنى "لاظوغلى" معصب العينين أمضى وأمر على أضواء خافتة تنبعث من المكتاب مكتبا تلو الآخر وبشر يجلسون القرفصاء منكسوا الرؤوس ، فتحت عيناى على أحدهم هناك يجلس القرفصاء منكس الرأس .. ارتبكت قدماى وكدت أسقط ، سألت أحدهم مرة أخرى : فلسطينيى أحبث أنا .. لا ترهق نفسك سيتم ترحيله على بلاده .. امض أنت

مضيت على دقات أهلى الهاتفية يستحثوننى للخروج .. مضيت ومكث الفلسطينى .. مكث وأتى اليوم قبل ساعات ليخبرنى أنه لم يمض فى مطار القاهرة عشر ساعات بلا مأوى ، بل أمضى اثنين وعشرين ساعة بلا مأوى بعدما حقق معه .. ثم رحل عبر المعبر ..

هتفت هتاف أبى "تحيا الوحدة العربية" هتفت صبرا فلول أمن الدولة المصرى والخليجى ، يوما ما سيكون تجوالنا فى بلادنا أيسر من الثوانى التى انتظرناها على شباك جوازات ماليزيا ، ماليزيا البلد التى لا توحدنا بها جغرافيا ولا لغة ولا تاريخ وكان هذا مثالها معنا .. صبرا إن موعكم جيلنا .. أليس عهد جيلنا بقريب ..