8‏/3‏/2012

الإنسان .. والعَلاقة !

ما الإنسان ، الإنسان هو ذلك الكائن الربانى - مهما شابته الشوائب وغلبت عليه – الذى خلقه الله بإبداع فى مفرده ، وإبداع أعقد وأعجز فى مجموعه ، إذ اختلاف ألوان البشر وأشكالهم ليس أكثر إبهارا من اختلاف نفوسهم وعقولهم وقلوبهم ، التى لا يملكها جميعا إلاه ، ولا يملك بعضا منها إلا من أعطاه الله بعض أسباب ائتلافها "لو أنفقت ما فى الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم" .

وما العلاقة ، العلاقة هى روابط منفصلة عن الإنسان مقدرة كجميع أقداره ، لكن منها ما جعله الله جبرا ظاهرا عليه كالأب والأم والابن والأشقاء وكل ما تفرع من صلات قرابة ، ومنها ما جعله الله خيارا له ، بداية من أعقدها على الإطلاق "الزواج" إلى كافة أشكال العلاقات على وجه الأرض صداقات ومنافع وتعلم وجيرة وعشيرة .. إلخ .

وإذن فهناك من العلاقات ما لن تستطيع أن تفصلها عن الإنسان ولا بموته حتى وهى العلاقات الجبرية ، وفى المقابل منها ما ننشؤه بإرادتنا ونقطع دابره بإرادتنا أيضا ، قد تساعدنا الظروف فى هذا أو تساعد علينا ، لكن فى كل الأحوال غالبا ما يعلق مصير العلاقة على قرار الإنسان نفسه .

وإذا كان الإنسان قد خلقه الله فردا وسيحاسبه فراد ، فإن العلاقة خلقها الله – فهى مخلوقة أيضا بقدره وحوله – أعقد من ذلك ، خلقها زوجين (أعنى طرفين) أو أكثر ، ورتب حقوقها وواجباتها على كلا الطرفين ، ولم يستثن الله إنسانا فى الكون دون أن يرتب له "علاقة" مع الإنسان الآخر لها حقوق وواجبات ، مهما كانت ماهية هذا الإنسان ، ولعمرى فإن آية فى القرآن أراها جمعت نوعين من العلاقات أعقدها وأبسطها وهى قوله سبحانه : "يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" ، فابتدار الذهن عند من الله علينا بخلقنا ذكرا وأنثى هى تلك العلاقة الشرعية بينهما الحافظة للخلق والموصلة للخالق ، ثم تشعيب العلاقات بعد الذكر والأنثى إلى الشعوب والقبائل وبينها ما بينها من البون الشاسع والاختلاف الهائل لا يفضى إلى انعدام أى علاقة بالكلية ، بل يوجب أن تكون هناك بحد أدنى علاقة "التعارف" ، والتى لو تأملنا فيها وجدناها بداية للكثير من العلاقات بين الزوجين (بداية الآية) فى كثير مما يقع بين الناس .

والعلاقات هى فى الأصل نوع من التواصل بسبب ما ، فالإنسان الذى لم أتواصل معه بأى شكل كان ، والذى يعيش فى ركن ما من أركان المعمورة ، لم أره ولم أسمعه ولم أكاتبه ، فقطعا لن تكون ثمة علاقة بيننا ، والإنسان الذى قابلته مرة أو مرات ثم انقطعت بيننا السبل – وهو حى – بسفر ونحوه تبقى علاقتى به رهن بأسباب الوصل بينى وبينه ، ولذا فإن فى الأزمان الغابرة كان السفر والترحال وسوء الاتصال يفقد المرء علاقات كثيرة لو دام معها الاتصال لأنتجت خيرا كثيرا ، وهو ما انتفى فى عصرنا هذا ، إذ لم يعد هناك من تخشى أن تفقده فى هذا العالم شديد التشابك ، وبالتالى فإن المسئولية تجاه العلاقات صارت أوثق بكل المعانى .

ولكن ما دامت الأمور بهذا الوضوح فما المشكل إذن فى الأمر ، ولم يخسر بعض الناس بسبب علاقاتهم التى جعلها الله سبيلا لحياة أفضل ، ولم تنتج بعض العلاقات السلبية من العداوة والقطيعة والتخاصم والتحاسد – وكلها علاقات – فى غير موضعها ، لأنها موجهة لأناس لا يحق فيهم هذا بموجبات كثيرة سنها الله لخلقه ونظمها بين عبيده !

إذا عدنا إلى طرفى المعادلة نجد أنه يصح الابتداء من أيهما ، فقد يقابل الإنسان شخصا ما يتعرف عليه بقدر ما ، دون أن تكون هناك أى نية مبيتة لعلاقة محددة تعقب هذا التعارف ، ويظل كلاهما يتعمق فى الآخر ويكتشف مدى القرب والانسجام ، فيقرر أحدهما (أو كلاهما) ساعتها أن يحدد ملامح علاقة ما بينهما ، فنرى أنه يشاركه فى تجارة أو علم أو نسب .. إلخ ، وقد يحدث العكس عندما يتقابل شخصان وأحدهما أو كلاهما يعقد النية على علاقة معينة محددة من قبل ، كأن أذهب لمقابلة فى شركة فأتعرف على الشخص الذى يجرى معى المقابلة ، أو أذهب إلى محاضرة وأقيم علاقة مع المحاضر ، فتكون هذه العلاقات محددة سلفا وقد تتطور وتنتقل إلى الإنسان ذاته ، وقد لا تتطور وتقف على حد العلاقة نفسها دون الإنسان .

ففى الوجه الأول من التعارف أنت تقدر الإنسان لذاته ، فيدفعك تقديرك وإكبارك له إلى أن تتشاركا معا فى سبل الحياة عبر تلك العلاقات التى كلما زادت كلما تصاحبتما وتدانيتما أكثر ، وفى الوجه الثانى أنت تقضى حاجاتك أولا ثم تنظر لما وراء تلك العلاقة من الإنسان هل يستحق بذاته أن يقترب من نفسك أكثر ، أم أن دوره سيقتصر على تلك العلاقة متى تنتهى ينتهى معها .

والناس يخلطون كثيرا فى الوجه الأول بين الإنسان الذى عرفوه ولم يتغير ، وبين العلاقة التى أنشئوها وقد تتغير وتتبدل ، فترى الصاحب يجافى صاحبه إذا تشاركا فى تجارة وخسرت ، وترى الزوجين يتحولان إلى أعداء إذا انفصلا ، وترى أى طالب لفتاة كمن يطلب الملك ، إما أن يفوز فإلى الصدر وإما أن يخفق فإلى القبر .

وما ذلك إلا أنهم قد أغشاهم عالم العلاقات المرتبط بعالم الأشياء المادية عن عالم الأشخاص المرتبط بعالم الأفكار والمشاعر المعنوية ، فهل صاحبك الذى فشلت معه تجارتك تغير فى ذاته ، هل كان صاحب خلق فتخلى عنه ، أو صاحب علم فبار لديه ، وهل خاطبك أيتها الفتاة كان طيبا خلوقا طالما عرفتيه وسمعت عنه من بعيد حتى إذا ساقه حظه التعس إلى القرار بطلب علاقة بينكما ، ولم يكتب للعلاقة التوفيق ، كتب للإنسان نفسه ذات المصير ، وهو على حاله وأنت على حالك من التشارك فى دروب الحياة التى يتشارك الناس فيها لنفع الأمة وعمارة الأرض ، فإن لم يكن خطؤكم فى حق هؤلاء أن يظلوا محتفظين بمكانتهم الإنسانية عندكم ، فحق الأمة ألا تحرم نفع تلك العلاقات وأثرها فى المجتمع بأسره .

والناس أيضا تخلط فى الوجه الثانى من العلاقات ، فيطالبون أحيانا كل من يكون بينك وبينه علاقة محددة سلفا أن يكون أكيلك وشريبك وجليسك ، وقد لا ترى فى هذا الإنسان أن يأخذ فى نفسك تلك المنزلة وهذا حقك ، ولو شاكك حتى نصف وقتك فى الحياة فكان زميلك فى العمل أو فى الدراسة الذى تمكث معه جل النهار ، ولكن من فرض أن الذى يبدأ بالفرع حتما سيصل إلى الأصل ؟ ، ليس صحيحا ، فقد تقتضى الحاجة فى "العلاقة" وليس شرطا أن تقتضيها فى "الإنسان" ، والذين يخلطون أيضا فى هذا الوجه يكتشفون بعد الفوت أنه غمى عليهم ، وأن من أدنوه من أنفسهم لم يكن يستحق هذا ، وأنه أغراهم علاقاتهم به الظاهرة والمؤقتة .

وأصدق ما يروى فى هذا هو موقف عمر بن الخطاب من قاتل أخيه فى معركة اليمامة ، فقد أسلم الرجل بعدها ولقيه ابن الخطاب وهو أمير المؤمنين فقال له : والله إنى لا أحبك حتى تحب الأرض الدم ! ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين، أوَ يمنعني هذا حقي؟ قال: لا. فقال: أيحل هذا جَلد ظهري؟ قال: لا .. فقال الرجل: ما لي ولحبك إنما يبكى على الحب النساء ؛ فهنا أمير المؤمنين بينه علاقة وهذا الرجل ألا وهى الحاكم والمحكوم ن لكن الرجل يعرف جيدا أنه لا ريدي أن يتعداها ، ولما اطمأن أن هذا لا يؤثر على علاقته التى شرعها الله انصرف عن طلبه ما وراء هذه العلاقة .

والناس منذ زمن لا تكف أيضا فى الخلط بين الوجهين ذاتهما ، فعندما تقدم على الزواج مثلا قد تقدم "العلاقة" على "الإنسان" نفسه ، حتى إذا حدث للعلاقة أى خلل أودت بالإنسان نفسه ، ولا تلبث فى غالب الأحوال أن تستمر أصلا ، لأنها مبنية على الفرع والأساس هنا أن تـُبنى على الأصل .

ومهما أخفيت فإنه غير خاف أننى ما قصدت بكل هذا إلا العلاقات العاطفية تحديدا - مع خطورة غيرها أيضا- التى ما زالت تحط أقواما وترفع آخرين ، وقلما أجد نماذجا تستطيع أن تنتهى العلاقة بينهما فى أى مرحلة - من أول الفشل فى التقدم إلى فسخ الخطوبة إلى الطلاق بعد سنين – دون أن يمحو أحدهما أو كلاهما الإنسان نفسه من خريطة حياته ، وما يكون مقصد الإنسان الذى يقدم أصلا على العلاقة ؟ ، أليس تعميق الصلة والاحتفاظ بمكانته عبر الزمن ، أفيكون جزاؤه بعكس مطلبوه ، وهو قائم فى صفاته وأفعاله التى لو نسبت بقدها إلى اسم آخر كانت له مكانة أخرى من النفس ، فأى ظلم يحيق به ، وأى ضيم يحط به .

يوما ما كنت جالسا مع فتاة فى حضرة أبيها ، فقلت لها من أحب الناس إليك ، قالت : أبى ، قلت لها إجابتك منقوصة ، إذ أن هذا الشخص الجالس معنا لو لم يكن أباك لما أحببتيه وهو أعظم من ذلك حتى لو لم يكن أباك ، فقالت : وكيف ذاك ، قلت أوما سمعت الصحابى عندما سأل سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم ) من أحب الناس إليك ، لم يقل "زوجتى" وقال "عائشة" ، وعندما سأله : ثم أى ؟ ، قال "أبوها" ، ليس من باب تقديم "العلاقة" على "الإنسان" فهو يحب أبا بكر قبل أن يعرف عائشة ، وليس لمجرد أنه حموه ، ولكن من قبَل المبالغة فى إكرامها وإكرام منزلتها لديه .

فها هو أعظم الناس قدم "الإنسان" على "العلاقة" فى تعبيره عن حب أعز الناس له ، فيا أيها الناس ، إن لكم علينا حقا ، ولنا عليكم حقا ، ثابت طالما ثبتت نفوسكم التى عهدناها فيكم ، لا يتدبل ولا يتغير مهما تبدلت العلاقات وتبددت .

هناك تعليق واحد:

Moslma-N يقول...

جميلة تلك التدوينة بمعانيها .. و لكن خسارة العلاقات بعد فشلها سواء تجارة أو غيرها لا يكمن فقط عن تقديم العلاقة عن الإنسان و لكن هناك بعض الأشخاص من يظهر معدنهم بالمحك و قد يكون هذا المعدن غير أصيل فيكون البعد فى هذه الحالة أفضل عن الحفاظ بعلاقة ملئية بالمشاكل أو الحقد النابع عن نفوس الأشخاص لا الظروف الخارجية.. و لقد تفكرت فى العلاقات الإنسانية كثيرا و خاصة فى أمر تجنب أى علاقة " تجنبها و ليس محوها لان إلاسلام تواصل و مودة و له قاعدة لا يخاصم أحد أحد أكثر من ثلاث ليال " و وجدت ضالتى مع الإمام الشافعى حين قال " إن كان لا يرعاك إلا تكلفا .. فدعه و لا تكثر عليه التأسفا " .