13‏/6‏/2008

الحادى .. والعشريــن


نسيمات صبح عليل تتلمس بصعوبة مسارات لها فى الغرفة الحارة ، تجول وتجول ثم تحط على قسمات وجهه الغائم نصفه فى طيات وسادة مكتنزة ، حملته رقتها المداعبة على أن يراوغ بأنفه المندس فى الوسادة قليلا ، ويترك حرارة دفئها إلى تلك النسمات المتوافدة ، قبل أن يقرر بفتح عينيه فما زال النوم لذيذا ، وما زالت أيديهم تصفق فى أذنيه طوال الليل ، لا يكاد ينقطع صوتها ، بل يزداد ويخبو ، وكلما أوشكوا على الانتهاء ابتدء آخرون ، وما زال النوم لذيذا ، وما زال التصفيق حادا ، لكن صوتا يتدخل بقوة ، يعرقل النسمات ، يباعد الصيحات ، يحاول أن يتسمع ، يزداد الصوت ، ويقترب ، ينقطع التصفيق تماما ، لكن سعادته لم تنقطع .

فلم يكد يتبين ذلك الصوت حتى عرفه ، قد كان ينتظره ، لم يعد فى حاجة إلى أن يقاوم أجفانه النعسى ، انفتحت شباكها ، كما لو قائد تفتح أمامه قسطنطينية الروم بعد عناد ، انفتحت كما لو أنها ترتاد أفق للحياة جديد ليس لها به عهد ، أخذ يبحث بنصف عين عن مصدر الصوت الذى كان قد انقطع لتوه ، فما لم تسفعه عيناه ، انطلق بيديه يعارك الوسادة .. وبقدميه ينفض الفراش ، حتى أصبح مرقده فى لحظة خال من كل ما عليه ، حتى هو نفسه وقع على الأرض من شدة المعركة .

وبعد أن هدأ غبارها بدت أرض المعركة خالية إلا من خاتم فضى صغير على حافة السرير يستقر خلفه الهاتف الصغير الذى ما إن وقعت عليه عيناه حتى انطلق صوت منبهه يخرق السكون من حوله ، فانطلق إليه يكممه : ها أنا قد صحوت .. صوت رسالتها يكفى لكى يوقظنى ، لست بحاجة إلى عشرين رنة ورنة كى أستيقظ هذا اليوم ، كنت أحتاجها قبل ذلك ، قد أحتاجها بعد ذلك ، لكننى لست فى حاجة إليها الآن ، ثم يضحك وكأنه يداعب طفله المدلل الصغير ، ويضغط على أزاراه بشده ، أنا فقط أحتاج أن أقرأ رسالتها .. الآن

الفراش ما زال خاليا ، غطاؤه فى الأرض ، وسادته فى الأرض ، يجلس أمام قائم السرير الأيمن الأمامى ، خلفه مكتبته الصغيرة التى تعتلى خزانة ملابسه ، تغص بعشرات من الكتب ، لا من كثرتها ، بل من ضيق المكان ، أمامه مكتبه الصغير تعلوه أكوام من الورق ، وهو جالس فى الظلام ذاهل عما حوله يقرأها .. يعيش معها ، كأنه يجلس فى وضح النهار ، قدماه تتدلى فى نهر ينحدر من بين الصخور ، يتثنى بين المروج والزهور ، نعم إنه يعش معها يتلمس صوتها الرخيم تغنى له :


في عامك الحادي والعشرين
يزداد خوفى .. يزداد حبى .. يزداد القلق

(خوفي !!! نعم )

خوفي اذا جاء المساء
وما أتيت مع القمر!

خوفي اذا جاء الخريف
وما رجعت مع المطر

خوفي إذا الشوق عربد داخلي
وبرغم اخفائي ظهر

خوفي اذا ما رحت ابحث عنك
ذات يوم .. ياحبيبي
ولم أجد لك من أثر

ترك الهاتف يغفو بين يديه ، حتى مال إلى قدميه ، واستقر على الأرض ، سرح بعينيه فى الظلام الذى بدأ يخف شيئا بشىء مع ضربات الضوء المتتابعة على شباك الغرفة الموصد ، أخذته نشوة عذبى : ها قد بلغت ذاك اليوم ، ها قد وجدت ما تمنيت فى هذا اليوم ، ها هى كلماتها تحيينى اليوم بعد اليوم ، ومن أول يوم أخذ حبنا درب الأمان ، من أول يوم عرف خاتمينا طريق أصبعينا ، ونحن نخلق من جديد وكأن عمرا بأكمله عشناه لم يكن إلا رحلة لهذه الأيام وتلك اللحظات ، لا أصدق نفسى أننى نجحت فى هذا ، لا أصدق أننى حققت ...

التقطه ثانية ، راح يعزف الحروف من صدى لحن رسالتها ، الذى ما زال يرن فى أذنيه :


حدوتُ عشرينا من السنين وجئتنى الحينا
فكأننى لست الحادى ولا هى العشرينا

لو علم الحادى أنك منتهاه .. لما أبطأ تلك السنينا ..

وسيظل الحادى يحدو العمر عشرينا بعد عشرينا
فى حبك وحدك .. لا تقلقى .. وإياك أن تخافينا


أرسلها سريعا ، وبعد أن اطمأن على الوصول ، وقبل أن يهم بالنهوض ، أحس بصوت غريب يعكر تلك السمفونية التى تترنم فى أذنه ، كذلك الصوت الذى كان يقطع سعادته فى نومه ، حاول أن يقضى عليه ، يفتح الرسالة ثانية ، يعاود قراءتها ، الصوت يفوح من بعض حروفها ، نعم هاهى : خ و ف ى ، ما هذا ، إنها تتكرر وكل سطر ، كل سطر ( خ و ف ) من الفراق .. ( خ و ف ) .. من الجفاء ( خ و ف ) .
يحاول أن يغالبها يحاول أن يبحث عن حروفه الأثيره : ح ب ، ع ش ق ، يجد صوتها مبحوحا وسط السطور ، قد ألبستها حروف الخوف سحابة الموت ، يهتز الهاتف فى يده ، يصخب الصوت فى أذنه ، يقرر بكل قوته النهوض هذه المرة ، يستند على قائم السرير ، تمسك يده برف المكتبة الصغير ، يتباعد جسده قليلا عن الأرض ، يهوى سريعا مرة أخرى إليها ، ينكسر الرف تهوى الكتب من الكتبة ، تتطاير الأوراق من المكتب ، تتلاطم على وجهه ورأسه ، وصوت اللحن قد صار حفيف أفاعى ، أو عواء ذئاب ، ورائحة الخوف فى كل مكان ، على كل الأسطر وفى كل الحروف ، يجد أوراقه ملوثة بالدماء ، ما هذا ؟ إن يده مجروحة ، جرحت عندما انكسر الرف منه ، يحاول أن يرفعها حتى لا تتلوث أوراقه أكثر من ذلك ، يحاول أن يتذكر كيف يتصرف لا يريد لتلك الدماء أن تلوث : كتبه ، أوراقه ، ثيابه ، خاتم إصبعه ... خاتم إصبعه ، أين هو لقد رآه الليلة مرة ، حين كان فوق السرير ، لم يره ثانية ، يقوم من فوره مذعورا ، يعتلى السرير ثانية ، ما زال فارغا ، هذه المرة ليس عليه أى شىء ، خال من كل شيء ، تروغ عيناه فى كل مكان يفتح الأنوار ، يستجيب لطرقات الضوء على الشباك ، يدور بقدمه ويقع مرة أخرى على الأرض ..

لكنه يفتح عيناه بصعوبة بعغد إغفائة لا يعرف زمنها ليجد كل شىء مكانه ، ينطفىء الضوء ثانية ، السرير يحوى الوسادة والفراش ونصف جسده ، المكتب عليه أكوام الورق ، المكتبة متخمة بالكتب ، الأرض خالية تماما ، ليس عليها أى شيء إلا نصف رأسه المنزرع فيها ، وفمه المفتوح من الكابوس المزعج .

يحاول أن يتلمس فى هدوء الحلم من الكابوس ، الحقيقة من الخيال ، يستعيد هدوءه ، ويتمدد على السرير ، ما زالت رائحة الخوف تملأ المكان ، ينظر بروية فإذا كل شيء فى مكانه تماما ، ببطء يتحسس يده ، تلمس أصابعه ، واحدا تلو الآخر ، بلا جدوى لا يجده ، لا يجد بها خاتم من فضة ، ولا حتى من حديد ، ينتشر الدمع فى عينيه ، ييبس الدم فى عروقه ، تعترى رعشة الخوف جميع جسده .

يرن صوت منبه الهاتف ، يدعه يرن ويرن ، يدعه يرن رنته الحادية والعشرين ، فلا وصل صوت رسالة يوقظه ، ولن يصل ، لن يصل .

رائحة الخوف ما زالت أيضا فى المكان حتى بعد أن فاق من الحلم ، لكنها لم تعد رائحة الخوف من الفراق .. رائحة الخوف من الفراق حبيبتى ، أضحت خوفا من تأخر اللقاء ، خوفا من عدم القاء ، خوفا من استحالة اللقاء ، وحروف الحب الشاحبة تتأبى عليها سحب السماوات أن تمطرا ، ماذا سيقول لو كتب لها سيقول :

لا تخافى بعد الآن ، ولا قبل الآن ، لا تخافى أن يهل قمر ولا آتى معه ، لا تخافى أن يأتى مطر خريف ولست معه ، لا قمرا يهل ، ولا خريف يأتى ، لأنه لا شمسا طلعت ، ولا ربيع أورق ، كل شىء جامد لا يمر .

لن يبعث لها رسالة فى هذا اليوم ، لن تبعث له رسالة فى هذا اليوم ، لن يكون سوى يوم كأى يوم ، كل ما هنالك أن صفته ستتغير من قاصر ، إلى رجل رشيد .. وطالما لم أرض بالأولى منهم فى حياتى ، فهل أفخر بالأخرى منهم أيضا ، شكرا أيتها الدولة التى يحيا فيها الفتى القاصر والرجل الرشيد سويا فى كبد .

يسكن الكون من حوله لحظة ، وتشق " الله أكبر " السكون بكل قوة ، وتذعن كل ذرات جسده للنداء ، يقوم بتؤدة يمر على صورته من تحت زجاج المكتب يوم أن كان حاد فقط بلا عشرينا ، يوم أن كان لا يُحرم حبا من عينى أمه ، ولا عطفا من يد والده ، ومع ذلك يقذف بإصبعه فى النار كثائر على طبيعة كل طفل يخشى النار ، منذ أن كان حاديا فقط ، علم أن عشرينه سوف يملؤها كلها حبا وثورة ، هو لم يضن عليها بثورة ، فلم تضن عليه اليوم بحب ، لا يعلم .

بجانب الصورة أوراق على مكتبه ، تذكره التصفيق الحاد الذى خالط أذنه طوال الليل ، ها هى إنجازاته ، حبر على ورق ، يطرب لها الناس أحيانا ، يعجب بها البعض أحيانا ، لكنها فى أغلب الأحيان لا تنتزع منهم سوى ما لا يكلفهم شيئا ، ولا يغير من حركة سيرهم فى سواقيهم شيئا ، لا تنتزع منهم سوى التصفيق ، ما فى الحياة إذن يستحق هذا الإجحاف ، ما فيها حب لعاشق ، ولا فيها من منطق لعاقل ، من فيها لا يحس بمشاعرك ، ولا يقتنع بمنطقك ، ففيم الحياة ، وفيم المما .. وقبل أن يتم كان المؤذن قد صدح بها عالية " لا إله إلا الله " .