8‏/1‏/2008

غريم الشجن



لنعلن أن الخسارة ربح وأن الغريم غريم الشجن
وأنك مهما تجسدت ليلا ستصبح فجرا بلو...



لن يهدأ بهذا الغناء ، أنفاسه لا تزال مضطربة ، بقى على الموعد خمس دقائق ، قد خزن في ذاكرته جيدا كل ما يريد أن يقوله في الثلاث ساعات القادمة ، ولا يريد حتى أن يراجع ، يريد فقط أن يأتي هذا الموعد ، بل أن ينتهي الموعد.

خطواته قد اقتربت من المكان ، دلف إلى البهو ، تخلص من زحام اليوم الأول المعهود بالكاد ، التقط أنفاسه ، سار في الردهة الخلفية الطويلة التي لا يكاد يسير فيها أحد .. التهمت أقدامه الدرج في سرعة فائقة ، اقترب من الباب ، لم ينظر في أي ورقة من أول دخوله للكلية ، ليس متيقنا بأن هذه لجنته ، ليس معه حتى رقم جلوس ، ولكنه يعرف ، ليست هذه هي المرة الأولى ، ولا الثانية ، إنها المرة السابعة

هو هذا المكان بالتأكيد ، نعم اسمه هنا هو هو منذ المرة الأولى ، رقمه تغير ، بالتأكيد تغير ، لكنه لا يعرف تحديدا ما الذي تغير فيه ، لأنه لا يتذكر سابقيه ، أخذ بحركات تلقائية يخرج كل ما تحويه جيوبه ، هذه البطاقة للملاحظ ، وهذا الهاتف يغلقه ، هذه الأقلام الجديدة التي يشتريها كل مرة ولا يعرف عنها شيئا بعد الانتهاء ، يدير عينيه في المكان ، يحاول أن يهيأ نفسه ، يفتعل البسمة في وجه هذا وذاك ، وجوها ملازمة للمكان أيضا منذ المرة الأولى .

ها قد جاءت الأوراق ، يمسك بالأقلام ، يسطر اسمه الذي يحفظه ، ينقل الرقم الذي لا يعرفه ، يكتب المادة التي صحبته في كل مرة .. يقف القلم عند الخانة الرابعة ، يعييه الجواب ، ماذا يكتب ، وكيف يكتب ، لا يصدق هو ، ولا قلمه أن مرت هذه الفصول وتلك السنوات ، ما زال يتذكر أول مرة ملأ فيها هذ الخانة بكل ثقة : الفرقة الأولى ، كيف كان يشعر أن بينه وبين ( الرابعة ) بحور من الأمل والعمل ، كيف أنه خاضها ، يغالب الموج ، والموج غلاب ، يتقاذفه من فصل إلى لآخر ، يرى في الأفق يابسة ، فيها جنة موعودة ، وحبيبة تنتظر ، ولواء مرفوع ، أتراه نزل إلى الشاطيء اليوم ، إن الرحلة أوشكت على الانتهاء ، الشاطىء أمامه فعلا ، ولكنه شاطىء المجهول ، نعم كانت رحلته إلى الشاطىء المجهول .




يستفيق على ورقة الأسئلة يطالعها بنظرة سريعة ، قد رأي كل هذ الكلام من قبل في الكتب ، يطويها حتى يكمل تسطير أوراق الإجابة ، لكن عيناه قد رأتها ، رأت " أحبك " ، رأت " أنا بانتظارك " ، رأت : اشرح .. وتجربة .. وسيد قطب .. وحب

تلفظ أنفاسه بزفرة مكلومة على سخرية القدر من ذاك اللقاء الأول بينه وبين تلك الكلمات ، يوم كان يُعِد للإبحار يوم أن كان في ( سنة أولى ) يتجول في الكلية ذات نهار ، وساقته نفس الكلمات من خلف الباب " تجربة .. سيد .. قطب .. حب ، تفزعت أسماعه ، اقترب من المدرج وهم بالدخول ، حاول أقرنائه أن يقنعوه أن هذه سنة رابعة ، لم يستمع ، أصر ، دخل كالغريب ، مشدوها ، يسمع تلميذ العقاد وهو يقول عن شيخه .. كان قد فاته كثير من القصيد ، لم يعلق بذهنه إلا " أحبك من قلبي الذي أنت ملؤه " ، حفظها في سويداءه ، كانت هذه بمثابه صفير انطلاق السفينة وبداية الرحلة ، واثقا بأنه سيجد نهاية البيت السعيدة على الشاطىء ، لكنه لم يدرك ساعتها ، أن سيد قطب يقوده إلى شاطئه هو إلى الشاطىء المجهول .


ثلاث سنوات حسب أنه استطاع فيها تحقيق كل أدوات الحب ،وتمهيد كل السبل له ، فعل كل ما يطلب منه وما لم يطلب ، لم يسبح بذراعين فقط ، بل بأربعة أذرع ، دراسة ، وشغل ، ونشاط ، و.. والذراع الرابع المكسور ، وشعور ، ولكنه ما وصل .




مضت نصف ساعة ، لم يكتب فيها شيئا ، هل يكتب الإجابة التي سمعها منذ ثلاث سنوات أم يكتب الإجابة التي عرفها الآن ، لا يهم سيكتب الجابة التي في الكتاب ، لا التي عرفها ، ولا التي سمعها ، سيكتب :

لماذا أحبك هل تعلمين وما السر في الأمر هل تفكرين
أللحسن ، فكم قد لقيت الحسان فما هجن بي ومضة من حنين
أللعطف ، إني القوي العطوف فما أرتجي رحمة العاطفين
أللنظرات ، وللفتات وللسحر في مهجتي تسكبين
وشتى الخلال وشتى السمات لطالما اجتمعت للمئين
إذا فلأي المزايا يكون هواى وحبي هل تدركين


ثم يدع حيرة قطب ، ويتجه إلى العقاد أستاذه ، يكتب بلا توقف ، كالنزيف :

لست أهواك للجمال ، وإن كان جميلا ذاك المحيا العفيف
لست أهواك للذكاء وإن كان ذكاء يذكي النهى ويشوف
لست أهواك للخصال ، وإن رف منهن علينا ظل وريف
لست أهواك للرشاقة والرقة ، والأنس وهو شتى صنوف
أنا أهواك .. أنت ، أنت ، فليس سوى أنت بالفؤاد يطيف


تقف ثورته المعلوماتية ، قد فرّغ جانبا منها ، أخذ يدندن حولها ، يبين وجه النظر هنا ، وهناك ، يستعرض مدى إحاطته بالكتاب ، وفهمه للصعاب ، أخذ يحشد ويحشد بلا حساب .. مر الوقت ، كاد أن ينتهي الموعد ، أخذ في طي ورقة الأسئلة ، لم ينتبه .. السؤال لم يكتمل يوجد في آخره سؤال بريء عن رأيك : بين رأيك

عاد إلى هيئته الأولى ، يكاد يكون أصعب سؤال مر عليه في تلك الفصول ، إجابته طويلة ، إجابته غريبة ، إجابته " ليست معه " ، نعم لم تأت بعد ، عندما تأتي سيعرف فعلا ، سيعرف حقا ، إن كنتم على صواب ، أم على مصاب ، لكن ماذا يقول الآن ، يجب أن يكتب شيئا ، الوقت يداهمه ، يكاد يلمح الإجابة ، نعم إنها في عينيه ، ينطق بها صاحبه ، ينطق بها أبو عزام ، أكمل أحمد .. أكمل غناءك ، أكمل نشيد الصباح ، تمثله يا صاحبي ، فإنه أنت ، نعم إنه هو ، هو أنا ، إنه أنا .. غريم الشجن .

لنعلن أن الخســارة ربـــــــحٌ
وأن الغريمَ غريـــمُ الشجـــــن

وأنكَ مهمــا تجسـَّـــدتَ ليـــلا
ستصبح فجــرا بلون الكفــن

تكتــِّم عينُك ســـــر الدمــــوع
وفي الليل تذرف دمع العلـــــن

ففيم ارتواؤك كـــــأس الحيــاة
وما يعلُ في الكأس غير المحن


حضنت الضحايا ، ضحايا الزمان
وعند انحنائـِــــك ، لم تحتضـــن

فلا الليــــل يحرس ، نوامــــه
ولا الدار تحنو على من سكـن

ولا الخــل هدهد دمع المآقـــــي
ألقى الأمـــــــــان لكي تطمئــن

فلملم حضورك ، حان الغيــاب
وارحل بعيدا في اللا وطــــــن

ليعلن عنـك الزمان الهجيـــن
بأنك جسدت حزن الزمــــــن

تلفظ الدقائق الأخيرة أنفاسها لتعلن نهاية الموعد ، تغلق أوراق الإجابة ، تجمع أوراق الإجابة ، ينصرف الطلاب ، والمراقبون ، والأساتذة ، يظل في مكانه جالسا ، يحس أنه نسي شيئا ، ماذا نسي ، لا يعرف ، يجمع أدواته ، يجر قدميه ثقيلتبن إلى باب المدرج ، لا يكاد يبلغه حتى يتذكر ، نعم لقد نسي ، نسي أن يكتب في الخانة الرابعة ، أنه في الفرقة الرابعة ، تركها خاوية .


وما في الأمر هل تذهب الورقة إلى سنة من السنيين الأخرى الخالية ،تذهب أو لا تذهب ، لا يهم ستكون الإجابة واحدة .. هل سيعرف المصحح سر النقاط الخالية ، يعرف أو لا يعرف ستكون النتيجة واحدة ، نعم واحدة .