24‏/7‏/2007

انتصار الأحمر.. ودروس للأمة

قد تطول هذه التدوينة التي جاءت بعد أكثر من أسبوعين من البحث والتنقيب عن موضوع قد لا يرى قارؤه أهميته إلا بعد أن يسأل نفسه إن كان يعلم حال 160 مليون مسلم يعيشون في الشرق الأقصى للعالم الإسلامي في كيان إسلامي لم يمض على وجوده سوى ستة عقود فقط ، هل يعلم عن تاريخهم شيئا ، ثم هل يعلم عن حاضرهم شيئا ، هل يعلم عن مئات قتلوا منهم قبل أيام ، هل يعلم مستقبلهم وما يحاك بهم من مؤامرات ليل نهار ، إن كان لا يعلم فليتابع
لقد كانت واقعة المسجد الأحمر في باكستان منذ أيام ، نقطة تحول ، أو تحاول أن تكون كذلك في تاريخ الباكستان ، ولكي نفهم أبعادها لا بد أن نفهم الحكاية من أولها ، ثم نقف على حقيقة ما حدث ، وأخيرا دروس لا تنتهي أهميتها يجب أن نتعلمها

بداية الحكاية

بخلاف البداية الواحدة لكل حكاية فإن حكايتنا لها أكثر من بداية ، نستطيع أن نرسم ثلاثة منها

البداية الأولى : نشأة الباكستان

إن أمة لا تملك أرضا تستند إليها لا دين لها ولا حضارة ، وإنما الدين والحضارة بالحكومة والقوة ، وإن باكستان هي الحل الوحيد للمشكلات التي يواجهها المسلمون في هذه القارة الهندية محمد إقبال

هكذا كانت النشأة حلم يراود مشاعر وأفكار آلاف المسلمين في شبه القارة الهندية بعد أكثر من ثلالثة قرون من الاحتلال البريطاني لاقوا خلالها ما لاقوا من حملات التبشير والتطهير ، ثم لما كان الاستقلال أرادوا لهم التهميش ، فنهض مفكروهم يصدعون بهذه الفكرة وعلى رأسهم محمد إقبال الذي ما زال نشيده يرن في الآفاق


الصين لنا والعرب لنا ** والهند لنا والكون لنا
أضحى الإسلام لنا دينا ** وجميع الكون لنا وطنا
توحيد الله لنا نورا ** أعددنا الروح له سكنا

لكن هذا التوحيد وهذا الدين الذي أسكنه إقبال روحه لما لم يجد له أرضا يسكنها ، استطاع محمد على جناح أن يوجد له أرضا بعد رحيل إقبال بتسعة أعوام ، ففي 14 أغسطس/ 1947 أعلن محمد علي جناح قيام جمهورية باكستان الإسلامية وأصبح أول رئيس لهذه الجمهورية الوليدة بعدما ملأ صوته الآفاق ينادي

نحن نصر ونتمسك بأن يكون المسلمون والهندوس أمتين كبيرتين، وذلك طبقا لأي تعريف أو معيار للأمة

نحن أمة لمائة مليون مسلم، وعلاوة على هذا نحن أمة ذات أمور متميزة في الثقافة.. والحضارة.. واللغة ..والأدب ..والفن ..والهندسة المعمارية.. والأسماء.. والمصطلحات الخاصة ..والشعور بالقيم ..والعدل.. والتاريخ.. والملكات.. والطموح، وباختصار لنا وجهة نظرنا المتميزة عن الحياة ومن الحياة. ووفقا لجميع مبادئ القانون الدولي نحن أمة

إذا قامت دولة الباكستان وأعلنت تطبيق الشريسعة الإسلامية ، ووفد إليها العلماء والإصلاحيين من كل حدب وصوب يشاركون في صياغة هذا الكيان الجديد لجزء من أمتهم الإسلامية ، حتى إنهم اعتبروها بيت الإسلام في ذلك الزمان

إني لا أعتبر هذه البلاد بلادنا .. بل هي بيت الإسلام ، لقد واتتنا الفرصة لأول مرة بعد قرون لنقيم دين الله في صورته الحقيقية .. ونقدم للعالم أجمع المثال العملي لفلاح هذا الدين ونجاحه ، إنها نعمة كبرى أنعم الله بها علينا ، ويجب علينا أن نصونا ، ونحافظ عليها بشتى الطرق وبأي ثمن
أبو الأعلى المودودي

البداية الثانية : أحداث 11 سبتمبر

وعلى الرغم من أن الحرب في أفغانستان توشك على نهايتها فإن أمامنا طريقا طويلا ينبغي أن نسيره ، في العديد من الدول العربية والإسلامية ، ولن نتوقف إلى أن يصبح كل عربي ومسلم ، مجردا من السلاح ، وحليق الوجه ، وغير متدين ، ومسالما ، ومحبا لأمريكا ، ولا يغطي وجه امرأته بالنقاب
خطاب لجورج بوش بتاريخ 29/1/2002
إذا كان مساعد وكيل وزارة الخارجية الأمريكية كارل إندر فورث قد طالب بإغلاق المدارس الدينية علانية لدى زيارته لإسلام أباد في بداية عام 2001 أي قبل أحداث 11 سبتمبر ، فإن مطالب الولايات المتحدة لم تقف عند هذا الحد بعد الهجمات ، فباكستان بموقعها الاستراتيجي تعتبر امتدادا طبيعيا لأفغانستان ولحركة الجهاد الإسلامي على مدار الحرب الروسية سابقا ، ولذا فإن كان خيار الولايات المتحدة مع أفغانستان هو الحسم العسكري ، فإن الولايات المتحدة لم تعط باكستان أية فرصة لمواربة الباب ، فكان الخيار إما أن تكون معها وذلك بفتح أراضيها لضرب افغانستان ثم اتباع كافة التعليمات بعد ذلك ، وإما أن تكون ضدها فتلاقي ما لاقت أفغانستان ، وكانت النتيجة أن لجأ برويز مشرف إلى الخيار الأول وأصبح " عميل برتبة .. رئيس دولة " ، واختار الشعب الخيار الأخير

البداية الثالثة : هدم المساجد والمدارس الدينية

لم يتوقع الشعب الباكستاني أن يصل مشرف إلى ما وصل إليه من التواطؤ مع الإدارة الأمريكية من أول الحرب على أفغانستان ، إلى مواجهة القبائل ، في عمليات شرسة لا يجد لها المحللون السياسيون أية مبرر معقول ، إلا أنه شخص مجنون مهدد بزوال عرشه لا من قبل شعبه ، بل من قبل من يطلبون منه أن يفعل ذلك

ثم جاء الدور على المدارس الدينية التي تعد الحصن الأخير في المحافظة على الهوية الإسلامية للأمة الباكستانية ، حيث تبلغ أكثر من 10 آلاف مدرسة ، وقد بلغ عدد تلاميذها مليون طالب وطالبة معظمهم من الطبقة المتوسطة والفقيرة ، هذه المدارس التي استطاعت أن توقف المد الشيوعي فكريا أولا بما ربته في عقول الناس وأذهانهم ، ثم عسكريا - ثانيا- بما خرجته من فيالق المجاهدين التي أرسلت تترا إلى الجبهات الروسية الأفغانية

وتحت ستار الدعوة إلى تطوير تلك المدارس خصصت الإدارة الأمريكية مساعدات بقيمة مائة مليون دولار لمراقبة المدارس الدينية وإعداد قاعدة بيانات عن أسماء الطلبة والمدرسين ومتابعتهم وكذلك العمل على تعديل المناهج ، وقرر مشرف منع فتح أي مدرسة جديدة إلا بإذن مسبق من الحكومة كما طالب مشرف هذه المدارس بوقف التدخل بالشؤون السياسية كما اتهمها بتعليم التطرف والتشدد وعدم مواكبة العصر ولكن الأمر لم يتوقف على ذلك بل حاول مشرف تقليل أعدادها ، ولسوء حظه فإن كل المدارس الدينية ملحقة بمساجد أصلا ، ولكن ذلك لم يردعه عن الشروع في هدم تلك المدارس مع مساجدها بدعوى المخالفة القانونية ، حتى قام بهدم سبعة مساجد كان آخرهم مسجد أمير حمزة والذي بني منذ مائةعام أي قبل وجود الدولة أصلا وقوانينها بأربعين عاما ، وهنا انطلقت الشرارة التي أججها اختطاف المشايخ والعلماء حتى النساء منهم
الواقعة



لسنا معارضين فقط لمشرف كشخص، بل اننا نرفض النظام العلماني القائم برمته

عبد الرشيد غازي نائب إمام المسجد الأحمر قبل أيام من استشهاده

كانت هذه هى أفكار عبد الرشيد غازي كإمام من أئمة مئات المساجد الباكستانية ، وقبل ذلك كمواطن باكستاني

يشاهد ما حذره منه شيخه المودودي يقع فعلا ، ويحاول أن يدفع دون وقوعه بأي ثمن

المسجد قبل الهجمات

المسجد وقد اشتعلت فيه النيران

أما طالبات المسجد الأحمر أو فلنقل طالبات " مدرسة حفصة " الملحقة بالمسجد الأحمر فقد كانوا أكثر وضوحا ، فبعد هدم السبعة مساجد في العاصمة إسلام أباد خاصة مسجد أمير حمزة الأثري ، وبعد التهديد المباشر بهدم المسجد الأحمر ومدرسة حفصة ، قامت الطالبات برد فعل سريع وذلك بالاستيلاء على مكتبه فى إسلام أباد و رفضن المغادره حتى تتم تلبية مطالبهن المتمثله فى

إعادة بناء المساجد التى تهدمت

الضمان بعدم المساس بأى مسجد

إسقاط جميع التهديدات بهدم مسجد لال و مدرسة حفصه

قوبل ذلك برد فعل من قبل الشرطة وذلك باختطاف مدرستين من المدرسة واقتيادهما إلى مركز الشرطة ، ولكن الأمر لم يكن بهذه السهولة لدى الطالبات اللاتي قررن ألن تبيت المدرستان في مركز الشرطة ليلة واحدة ، لأن ذلك يعني كما يعرفن هتك أعراضهن ، فقررن في حركة جريئة احتجاز رجلين من رجال الشرطة المتواجدين بالمكان ، واستطعن أن يبادلوهما بالمدرستين قبل فوات الأوان
ولم تخفت ثورتهن عند هذا الحد فماذا بعد اختطاف المعلمات وتهديد أكبر مدرسة لهن بالهدم ! ، فقررن الاعتصام بالمدرسة لحين تلبية مطالبهن ، لكن الشيخ غازي نصحهن بملازمة بيوتهن ، وأنه هو وطلابه سيكفونهن ذلك
لكن الطالبات أصرتن على الاعتصام مع الطلبة في المسجد ، ويقررالمسجد من أول شيخه إلى أصغر فتا وفتاة فيه أن يواصل اعتصامه ويصمد حتى النهاية ، هذه النهاية كانت نهاية مئات الطلبة والطالبات في مشهد مروع تحت سمع وبصر العالم عربه وعجمه ، كانت نهايه الشيخ غازي ، وطلبته ، ونهاية زوجته وطالباتها ، كانت نهاية المسجد الأحمر الذي خضب أصحابه جدرانه بدمائهم لكي تظل زاهية الحمار تبعث في هذا الشعب الدماء الثائرة لحفظ بيضة هذا الدين إلى يوم الدين ، نعم دفعوا أغلى ثمن يستطيع الإنسان بذله أيها المودودي

أهمية الواقعة

أولا : درس للسلفية

لن نستطيع حقا أن ندرك الواقعة إلا إذا تأملنا حالنا كإسلاميين في بلادنا العربية خاصة هنا في مصر وما حدث هناك ، وأخص بالحديث هنا السلفيين - وإن كان الكلام يمتد إلى كافة الإسلاميين - ففي كل مسجد تقام فيه حلقات العلم ويبدأ الناس في التقاطر إليه من كافة الأنحاء ، يأتي أمن الدولة ببساطة ويهدمهه ، نعم فوقف المساجد في مصر لا يختلف البتة عن هدم المساجد في باكستان ، لأن المساجد هناك لو كانت للعبادة فقط ، وتغلق عقب كل صلاة بخمس دقائق لما تحمل مشرف عناء هدمها ، ولكنها تؤدي رسالة أكبر من ذلك في الحفاظ على هوية هذه الأمة
وإنه ليحضرني يوم اعتقال الشيخ نشأت أحمد والشيخ فوزي السعيد ، حيث كان يحضر لهما مئات الآلاف من المصلين في الجمع والدروس ، وفي يوم من الأيام ذهبت الآلاف المؤلفة يوم الجمعة كعادتها إلى مسجد التوحيد برمسيس لتجد أن الخطيب غير الخطيب وتعلم بخبر الاعتقال ، فلا تتحرك لها ساكنة ، اللهم إلا قولهم في سرهم " إنا لله وإنا إليه راجعون " وينسلخ هذا الجمع من المسجد بغير رجعة وتغلق أربعة أدوار من المسجد لم تعد تستخدم لا في يوم جمعة ولا غيره ، ويستمر أمن الدولة بعدها في إعتقال العشرات من العلماء وإغلاق المئات من المساجد ، ووالله لو أعلن ألف واحد فقط منهم الاعتصام في المسجد ولو ساعة لكان الوضع غير الوضع
وانظروا أين الشيخ غازي الآن وأين الشيخ نشأت ، كلاهما صمت للأبد ، ولكن الأول استطاع أن يربي تلاميذه على الصمت الذي يخلد عزتهم على مر التاريخ ، أما الشيخ نشأت فقد كان يعلنها بكل أسف ويقول " لو أنني اعتقلت ستكونون أول من يتخلى عني ، وترتسم ابتسامة صفرا على الجمع الملحى من حوله

لقد استطاع أبناء المسجد الأحمر أن يوقفوا عجلة هدم المساجد بالشك ، فبعد هذه الفضيحة ستنقلب موازين القوة في باكستان ، ومنذ الحادثة إلى الآن ، والجيش والإسلاميين تبادلا المواقع فالمهاجم أصبح مدافع والمدافع أصبح مهاجم

الدرس الثاني : لعبة الانقلابات العسكرية

الضحية الأسهل في باكستان الآن هي برويز مشرف ، والإسلاميين الآن في سباق محموم مع الولايات المتحدة أيهما يصل لرأسه أولا ، فإن وصل الإسلاميين أولا ، فستكون حربا أخرى كأفغانستان ولكن هل كان عند أفغانستان سلاح نووي! ، أظن أن الأمر يختلف كليا ، وهذا يعكس عدم مبالاة الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب بمنظمات حقوق الإنسان - التي تملأ الدنيا ضجيجا وعجيجا على أسير هنا أو رهينة هناك- بما حدث من قتل في المسجد الأحمر ، مقابلة بالكابوس الذي يهاجمها من سيطرة أي اتجاه إسلامي على سلاح نووي في هذه المنطقة الخطيرة ، خاصة وأنها لم تحسم مسألة السلاح النووي الإيراني بعد

أما وصول الأمريكيين أولا فذلك بنفس الطريق الذي جاءت منه كل الثورات إلى الوطن العربي والإسلامي بل لا أحب أن أسميها ثورات أصلا ، فهي مجرد انقلايات عسكرية

ففي مصر ، وفي أواخر عهد الملك فؤاد تزايد نفوذ التيار الإسلامي ، وانتشرت الصحوة الإسلامية بشكل ينذر بقدومها على رأس السلطة عن قريب ، خاصة مع الضعف النسبي للملك فاروق ، فلجأت أمريكا إلى اختطاف هذا النصر من روح الصحوة باسم ثلة من جنود الجيش ، وكانت ثورة يوليو الأمريكية كما يسميها جلال كشك ، التي خدعت الجميع

وهذا عين ما تخطط له الولايات المتحدة في باكستان فإن لم يستطع مشرف إخماد هذه الثورة في غضون الأسابيع القادمة فسوف تستغل أمريكا غضب الشعب ، وتحدث انقلابا عسكريا من شخصية مقبولة ، أو حتى غير مقبولة ، لأن الشعب كله سيتعاطف معها ظانا أنها تخلصه من الطاغية مشرف ، إلى أن يفيق على السياط تلهب ظهره ، كما ألهب عبد الناصر ظهر الصحوة وأتى عليها في عهده

كلمة أخيرة

إن هدموا مدرسة حفصة فكلنا مدارس ، كل واحدة مننا مدرسة في بيتها ومع أولادها ، وسنربي ذلك المجتمع على الإسلام فليأتوا إلى بيوتنا إذا وليهدموها على رؤوسنا إن كانوا يستطيعون ، فبيوتنا سنحولها كلها إلى مسجدا .. أحمرا
كانت هذه هي آخر كلمات نطقت بها طالبتين كانتا معتصمتين في المسجد في برنامج لقاء اليوم على قناة الجزيرة ، والذي أخذت مقتطفات ليست بالقليلة منه في مقالتي هذه ، هذه الكلمات ما زالت ترن في أذني ، وما زالت صورهن تقرب إلى عيني صورة أم عمارة ، وأسماء بنت أبي بكر ، وتبعد عنها مئات النساء المسلمات اللواتي يفتحن الدور للتحفيظ نعم ، ويلبسن النقاب أيضا نعم ، ولكن لو أغلقت إحدى هذه الدور ، أو حتى اعتقلت إحداهن سيلمن أنفسهن ألف مرة ويرددن " وقرن في بيوتكن
هذه كانت كلمة أخوات حفصة الأخيرة ، أما كلمتي الأخيرة فهي : أين كنا نحن طوال هذه الأسابيع ، أين كنا عندما هدم أول مسجد ، وأين كنا عندما هدم المسجد السابع ، وأين كنا عندما اعتصم إخواننا وأخواتنا ، وأين نحن الآن بعد أن استشهد المئات منهم بدم بارد

في الصيف الماضي حدثت أحداث الدنمارك ، وهاج المسلمون وماجوا على شيء مكرور من أول " تبت يدا أبي لهب وتب " ، لكن أن يقتل مئات المسلمون دفاعا عن بيوت الله فذلك بالأمر الهين علينا
مظاهرات في باكستان الصيف الماضي احتجاجا على الرسوم المسيئة
وكأننا لم نسمع قول رسول الله ‏لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم وقوله لهدم الكعبة حجرا حجرا أهون على الله من قتل المسلم ، اين مشايخنا وعلماؤنا ، أين سلفييهم وإخوانهم ، تبليغييهم ووسطيهم ، أين نحن نحن همزنا لأننا ما أخترنا يوما الحل الأحمر ، وانتصر المسجد الأحمر ، لأنه أبى أن يخلد إلا وهو أحمرا

3‏/7‏/2007

أخيرا ... خطبت


أخيرا خطبت ، أخيرا فعلت تلك الخطوة التي أتمناها ، وأمنّي الآخرين بها منذ زمن

الجزء الأول


إنه لشعور رائع يخالجني الآن ، وقد استطعت أن أحطم صنما من أصنام المجتمع التي أرى قومي لها عاكفون ، و أن أبدله بوتد قوي من أوتاد هذا الدين .


وقد استطعت أن أحرق صفحة من كتاب المجتمع الذي يسميه الشيب منهم " تقاليدا " ، ويسميه الشبان " موضة " ، وهو في الأصل منهج واحد يتعاوره الاسمين في مرحلتين متتابعتين من الزمان ، نعم استطعت أن أحرق صفحة منه وأستبدلها بصفحة من كتاب الله الذي هو قرآن للشيب والشباب في آن ، وعلى مر الزمان .


إنه لشعور رائع حقا ؛ وقد نزعت صفحة مشينة من صفحات شباب هذه الأمة ، صفحة ينام فيها الشاب من أول ما يبلغ ولا يستيقظ إلا بعد الخامسة والعشرين ، وقد سبقه أقرانه في كل شعوب الأرض صاحبة الحضارة ، أو التي تريد أن تصنع حضاره .. سبقوه بكل شيء .


نزعت هذه الصفحة .. ألقيت بها في سلة التاريخ .. استبدلتها بصفحة مشرقة يسر في عروقها رونق شباب مجد هذه الأمة الذين أقاموها ردحا من الزمان .


شعور مختلف حقا أن تنجز العمل ، ليس صدفة ولا اتفاقا ، ولكن بعد جهد جهيد ، بعد أن كان حلما بعيدا بليالي " الثانوية " قاسية الظلام ، ثم عملا وئيدا بأيام الكلية العصماء ( دراسة وإجازة ) حتى يصير واقعا يعجز اللسان عن وصفه وقد وقع ، كما كان عجز عن وصفه وهو حلم ، ولكن الاختلاف أنك كنت تستحي منه وهو حلم ، أما الآن فأنت تفخر وتفاخر به وهو واقع .


هو شعور رائع حقا عندما تكون هذه الخطبة هي خطبة النساء ، وهو أيضا شعور رائع عندما تكون هذه الخطبة هي خطبة الجمعة .


فاصل قصير ونعود
________________________________________

إخواني وأخواتي كانت هذه بعض ردود الأفعال التي رصدناها بعد قراءة الجملة الأخيرة في الجزء الأول من هذه التدوينة

والدي : " الواد ده وقع قلبي ، بس انا كنت حاسس برده إنه مش هايعمل حاجة غلط من ورا ضهري "

مدون صاحبي : " أنا كنت حاسس إن الموضوع ده افتكاسات من الأول ، زي اللي عملو رفعت بالظبط في تدوينته تداعيات إشاعة جواز ، وهو جابها منين ماهو الفيديو اللي في التدوين أحمد اللي باعتهوله "

قارئ عادي : " طب لما هو خطب جمعة طب ما يقول علاطول إحساسه بعد الخطبة ولا لازم يجيبلك حاجة بره الموضوع الأول ، هما بتعوت دار علوم كدة ما بيصدقوا يلعبوا باللغة "

طالبة في الكلية : " وقعت قلبي ، قول كدة ، أنا اصدق إن أحمد يخطب جمعة ناشي ماهو هويسنا في الكلية خطب في المدرجات والمسيرات ، لكن يخطب واحده إزاي ، ده بيمشي في الكلية ضارب بوزه شبرين يزق الحيطة ، ومناخيره في السما تخرم السقف "

_______________________________________________________

عدنا ...

الجزء الثاني

صدقوني ، نفس الشعور الرائع ما زال معي الآن يخامرني

لم يفارقني كما فارقكم وفارقكن

لأن الخصم واحد

و الانتصار واحد

ولكن المواجهة مختلفة

فخصمي في الحالتين هو المجتمع وهو ليس عدوي الحقيقي ، ولكنه أداة عدوي ، عدوي الحقيقي هناك في فلسطين والعراق ، في أفغان والصومال ، ولكنه هنا قد رحل عنا منذ ما يقرب من سبعة عقود ، وقد ترك فينا ما إن تمسكنا به فلن نهتدي أبدا ، هذا المجتمع فاقد الهوية هو خصمي ، هو الذي يتلون بلون أعدائي ، ويحول بيني وبينهم .


أما الانتصار فهو واحد أيضا ، وهو فك حلقة من حلقات القيد الذي يقيدني به ذلك الجتمع ، ويحاول أن يأسرني به لأسير في ركابه إلى الهاوية السحيقة التي نتردى فيها الآن .


الفرق إذا هو في المواجه ، ففي يوم الجمعة كنت أواجه المجتمع بأفكاري ، أما في الخطوبة - بإذن الله - فأنا أواجه المجتمع بمشاعري


إذا المواجهة الأولى كانت بأفكاري ؛ أفكاري التي ارتضيت أن أضعها في اختبار قاس ، فعندما أبلغني أحد الزملاء - درعمي خطيب وخاطب - أنه يستسمحني في أن أحل مكانه في خطبة الجمعة لدواعي السفر ، وقفت مع نفسي ، وقلت لن أحضر لهذه الخطبة ، وسأقوم باختبار صعب لأفكاري ، لأفكار شاب عنده عشرين عاما قضى ردحا منها في المساجد يتنقل بين الخطباء وكلما داوم على خطيب أخذوه ، هل يستطيع فعلا أن يقدم شيئا من هذا الذي يملأ به أذنيه كل أسبوع ، فضلا عن عشرات الكتب التي يتشدق بأفكارها بين الزملاء والقرناء ، هل هو قادر فعلا على صياغتها في شكل جدي بالفعل يفيد به الناس ، ويؤثر فيهم ، قد أكون نجحت في الامتحان بتقديري الذي أحصل عليه في دراستي دائما ( جيد جدا ) وذلك هو سبب هذا الشعور الرائع الذي ذكرت .


أما المواجهة الثانية ، فهى المواجهة بمشاعري ؛ تلك المواجهة التي اعتبرها المجتمع الملتزم منه أكثر من غير الملتزم ، مواجهة خرقاء ، لا تناسب قضايا الأمة ، ولا تساير همومها ، ولا مقتضيات المرحلة .. إلخ .
ولكني أعتبر أن هذه الأفكار هي رد فعل طبيعي لما صنعه أعداء المجتمع الحقيقيون في ميدان المشاعر ، حيث استطاعوا أن يحولوها إلى فساد محض ، وإلى فسق وفجور واضحين في كل قصة ورواية مقروءة أو مسموعة ، أو مرئية .


فأصبح مجتمعنا الملتزم لا يرى أصلا أنه هناك حق في أن يكون هناك اثنين متحابين بينما رأى النبي الكريم من قبل غير ذلك " لم ير للمتحابين مثل النكاح "، إذا فهناك حب ثم نكاح اعترف به النبي ، كما أن هناك حب بعد نكاح ، ومواجهة المجتمع بهذا الحب وبتلك المشاعر لا بأن أصاحب فتاتي في الجامعة ، ولكن بأن أصبر ثلاث سنوات في الجامعة حتى أنال ما أريد في العام الرابع .
بأن أصبر عن تفريغ هذه المشاعر بشكل غير شرعي
وأن أصبر على سبل شرعنة هذه المشاعر عن طريق إثبات الذات وإيجاد عمل مناسب لإقناع الأهل بأهليتي لهذه الخطوة التي باتت وشيكة بإذن الله .


إذا مواجهة بالأفكار ، ومواجهة بالمشاعر ، مواجهة بالعقل ومواجهة بالقلب ، نحسبها كلها في سبيل إنقاذ هذه الأمة من الهاوية ، والإرتفاع بها في عليين ، قولوا : آمين ، ولا تنسوا أن تباركوا لي ، لأنني أخيرا ... خطبت .