8‏/3‏/2016

من قريب !

نعم كانت المرة الأولى.. المرة الأولى التى أسافر فيها تاركا قلبى ورائى محلقا لا أمامى مضطربا، المرة الأولى التى يتعلق فيها بصرى بمن فارقنى لتوه ويمم شطره صوب باب الخروج، وعلى أنا أن أكمل المسير وحدى بلاه، وبلا قلبى الذى معه اختار البقاء على أن يصحبنى! 

المرة الأولى التى أصعد إلى الطائرة صعودا صعبا، كأنما روحى هى التى تصّعد فى تلك السماء، ولا ينفرج ما بها إلا فقط بذلك الشعور الخفى الذى يتملكها، أنها مشطورة نصفين، نصف معها ونصف هناك، وبينهما حبل متصل لا يتطاول ببعد مكان ولا بتغير زمان. 

نعم، تصارع الشعوران، شعور البعد والنأى، وشعور القرب والوصل، شعور الجسد التى تحل فيه روحك، وشعور روحك التى تحل فى جسدى، وتتقاز أمامى تلك اللوحة المأطرة أعلى أريكتنا البيضاء: ليس الوجود بالجسد فقط 

هنا أقع فريسة الحياة الموازية، تلك التى تملى على ألا أبتأس لألا تحزنى أنت، وأن أعيش كل ما أراه وأحفظ دقائقه فى نفسى وأعب من كل قكرة فيه حتى أبثه لك كما هو، كما لو أن كل ذرات ضوءه قد احتفظت بها فى غرفة سوداء بمحجرتي ونثرتا كقمرة قديمة أمام عينيك فلم يفت منها جزء. 

عند الإقلاع قبضت براحتى على يديك وأرسلت نظرة عبر النافذة تقول لك قد انطلقنا، فى الرحلة أغمضت عينى وحكيت لك كل حكايات طابور الوزن والجوازات وخفاقات القلب خشية الإخفاق وقفزاته ساعة المرور، قضمت نصف قطعة الخبر المقدمة فى الفطور علك تقضمين نصفها التالى، فضضت شطر صفحة من كتاب ثم أغلقته عندما اعترضتى خيالي مرة أخرى ثم مرة ثم مرات، غضضت طرفى عن الصارمات المتزينات ورأيتك تنظرين إلى وتعلقين، هذه تضع زوائدا، وتلك قد نزعت حاجبيها ورسمت مكانهما مسخا، أما هذه فجميلة فعلا، وى حتى فى هذه لا تجورين .. أغض الطرف عنهم جميعا فليس فى حضرة وجود روحك إلا أشباح لا تُبين.

عند الهبوط عببت بأول هواء يدخل صدرى مرتين، مرة لى ومرة لك، ثبت عينى وأخذت أتجول وأحكى مرة أخرى، المطار والحافلة والوفد ومستقبلونا.. السماء والغيوم والخضرة والأمطار، السيارات والإشارات والطرق والجسور، كل شىء هنا يستحق أن يحكى، لا لأنه هو، بل لأننى رأيته لك.

عند الوصول إلى الفندق، تذكرت فندقنا فى تلك الواحة البعيدة، تخيلت أنك معى الآن، تجولين ببصرك فى بهو المكان متعلقة بذراعى نستلم غرفتنا، نصعد متوثبين، تنيرين الأضواء وتتفحصين كل شىء هنا وهناك، تدورين دورة فى المكان قبل أن تفردى ذراعاك وتلقى بجسدك لمتعب من السفر على الفراش المستقر فى منتصف الغرفة وتدعوننى بإماءة من عينك كى أفرغ يدى من حقائبها وأرتاح جانبك قليلا. 

لا لا عفوا، هل قلت لك من قبل أن أفكر فى ذلك مرتين لا مرة واحدة، مرة كأنت أسماء، ومرة كأنت أسماء وورد، أما ورد فأفكر فيها داخل المرة الواحدة مرات أيضا، أحملها على يدى مرة وأربت بكفى على فقرات ظهرها اللينة، مرة أخرى أحملها على ظهرى فى حقيبتها .. أو أمسك بيدها التى ترفعها حتى تصل لأطراف كفى، هذه مرة رابعة أتابعها بعينى وهى تفز فى المكان الجديد وتلوح، أوأتابعها بشغف وهى تحمل حقائبها بنفسها وتحاول أن تقنعنى بأنها صارت كبيرة بما يكفي، تلك مرة أخيرة تتوسد يدها ذراعى كما تفعلين، وتنظرين أنت إلينا لتلتقطتى صورة وتقولين، أصبحت يا ورد عروسا.

الزيارات والأماكن الجديدة، المحاضرات والأكلات الغريبة، الدراجات والمظلات ومحطات القطار، اندهاشة الأمور الأولى، وظفر إماطة الجهل بشىء أو فهم، كل هذا من قريب أفعله معك، من قريب أشعر أنك هنا معى، وأننى هنا معك وبك فقط، فكل شىء عدا ذلك مجرد حاشية على نص أنت متنه

هنا أعرف أننى لا أستطيع إلا أن أكون منك قريبا، لأن البعد مُهلك، والنأى مُتلف، ولولا قصر الأمد لكانت حسرة الأبد، ولأن القرب حان، والوصل غير منته، أى حبيبتى وروح قلبى، أى صاحبتى وهداية عقلي، أى إنى من أقصى الأرض إلى أقصاها لا أبعد عنك إلا لأهيم بك وأقترب.